الخط الأصفر في اتفاق وقف إطلاق النار: من آلية مؤقتة إلى شريط أمني متحرك يعيد تشكيل غزة

تقدير موقف-المركز الفلسطيني للدراسات السياسية

الملخص التنفيذي

تستعرض الورقة التحوّل الإسرائيلي في التعامل مع “الخط الأصفر”، وبينما كان الخط مؤقتًا وهدفه الأساسي تيسير تنفيذ بنود التهدئة وحركة المواطنين، تحوّل تدريجيًا إلى أداة أمنية متعددة الوظائف:

عسكريًا:  تعزيز السيطرة على المناطق الشرقية، فرض نطاق عازلة، ومراقبة النشاط الفلسطيني.

سياسيًا : فرض واقع جديد قبل المفاوضات، وربط إعادة الإعمار بالترتيبات الأمنية.

تفاوضيًا:  استخدامه كورقة ضغط في ملفات الإعمار وصفقات الأسرى، وتعقيد عودة المواطنين.

وتبرز المآلات المحتملة لهذا التحوّل في تقنين شريط أمني متحرك، وخلق تقسيم فعلي داخل القطاع، وإعادة تعريف الاحتلال الجزئي المتحرك، وتأثير مباشر على المقاومة الفلسطينية.

وتقدم الورقة  حلولًا عملية للفلسطينيين لتعزيز السيطرة المدنية، وحماية الحقوق الإنسانية، ومواجهة التمدد الإسرائيلي، وضمان الاستخدام الأمثل للخط في المفاوضات دون خسارة الأرض والحقوق.

مقــدمــــة

يشكل “الخط الأصفر” – ذلك الخط الذي ورد في اتفاق وقف إطلاق النار باعتباره نقطة تراجع مؤقتة للقوات الإسرائيلية – أحد أكثر التحولات الميدانية إثارة للجدل في مشهد ما بعد الحرب على غزة، فعلى الرغم من طبيعته التقنية البحتة داخل الاتفاق، سرعان ما أعادت حكومة الاحتلال تعريف هذا الخط من وظيفة مرحلية مرتبطة بإجراءات التهدئة، إلى بنية أمنية متحركة تُستخدم لإعادة رسم قواعد السيطرة وتحديد ملامح المرحلة المقبلة داخل القطاع.

لقد كشفت الوقائع على الأرض عن فارق جوهري بين النص وروح الاتفاق من جهة، والسلوك الإسرائيلي من جهة أخرى. فبدلًا من أن يكون الخط آلية لتسهيل عودة السكان وإعادة الانتشار بصورة آمنة، تحوّل تدريجيًا إلى أداة عسكرية وسياسية وتفاوضية توظفها الحكومة الإسرائيلية لتحقيق أهداف تتجاوز ما ورد في الاتفاق بكثير، وأصبح الخط – من خلال إعادة تسييجه، وإزاحته، وتوسيعه، وتكريسه كمنطقة نار – عنصرًا محوريًا في استراتيجية الحكومة الإسرائيلية لإعادة هندسة البيئة الجغرافية والأمنية في غزة.

وتتعامل الحكومة الإسرائيلية اليوم مع “الخط الأصفر” ليس بوصفه نقطة انسحاب مؤقتة، بل كنواة شريط أمني متحرك قابل للتوسع والانكماش، يشبه في بنيته وآليات تشغيله نماذج “المناطق الآمنة” التي اعتمدتها في تجارب سابقة. ويُراد لهذا الشريط أن يؤسس لواقع تقسيمي جديد داخل القطاع، ويعيد تعريف شكل الاحتلال ونمط السيطرة، ويمنح الحكومة الإسرائيلية ورقة ضغط إضافية في ملفات التفاوض والإعمار.

من هنا، تتناول هذه الورقة تحليلًا معمقًا لطبيعة الخط الأصفر، وكيفية تحوّله من بند تقني محدود إلى مشروع أمني–سياسي متكامل، مع تفكيك أهداف الحكومة الإسرائيلية منه، واستشراف مآلاته المحتملة، واقتراح توصيات لمواجهة محاولات تقنينه أو فرضه كأمر واقع، فالخط لم يعد مجرد تفصيل ميداني، بل أصبح أحد مفاتيح فهم المرحلة المقبلة، وتوازنات القوة، وطبيعة الصراع على مستقبل غزة.

أولًا: ماهية الخط الأصفر في الاتفاق – وظيفة مؤقتة تحوّلت إلى بنية أمنية

حدّد اتفاق وقف إطلاق النار، في مرحلته الأولى، موقعًا مؤقتًا لانتشار القوات الإسرائيلية يُعرَف إعلاميًا ودوليًا بـ الخط الأصفر، باعتباره خط انسحاب فنّي يفصل بين نطاق الحركة المدنية الفلسطينية والمواقع العسكرية الإسرائيلية، وقد جرى تقديمه، في حينه، كإجراء تقني مرتبط بتسهيل عودة السكان، وضمان مرور المساعدات، وتهيئة الظروف للانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق التي تتضمن تراجعًا إضافيًا لقوات الاحتلال إلى الخلف.

وبحسب النصوص المنشورة والبيانات الرسمية للأطراف الوسيطة، لم يكن الخط الأصفر حدًّا سياسيًا، ولا منطقة أمنية دائمة، بل عنصرًا تنفيذيًا مؤقتًا هدفه تثبيت الهدوء ميدانيًا، وضمان عدم الاحتكاك بين الجيش والسكان خلال مسار التهدئة.

غير أنّ الممارسة الميدانية أظهرت مبكرًا أن الحكومة الإسرائيلية تتعامل مع الخط بخلاف طبيعته المؤقتة، وبصورة تخالف روحية الاتفاق:

  1.  غياب التحديد الميداني المتعمّد

لم توضع أي علامات واضحة على معظم أجزاء الخط في بدايات وقف النار، رغم أن الاتفاق يفترض قابلية تحديده بسهولة أمام السكان والمنظمات الإنسانية، وهذا الغياب لم يكن عجزًا تقنيًا، بل بدا خيارًا مقصودًا يتيح للجيش الإسرائيلي توسيع تفسير الخط وتغيير مساره بحسب احتياجاته العملياتية.

2.  ظهور علامات خرسانية صفراء بوظيفة مختلفة تمامًا

حين بدأ جيش الاحتلال لاحقًا بوضع إشارات صفراء خرسانية في بعض النقاط، اتضح أنها لم تكن لتحديد المسار بدقة للسكان أو الهيئات الدولية، بل لتحويل الخط إلى “منطقة نارية” تُحظر الحركة باتجاهها أو بالقرب منها، مع تهديد باستخدام القوة عند الاقتراب.

بهذا، تغيّر جوهر الخط من آلية فكّ اشتباك إلى حاجز أمني متقدّم.

3.  تغييرات جغرافية صامتة على مسار الخط

رُصدت، في أكثر من منطقة، عملية إزاحة صامتة للخط شرقًا أو غربًا من دون إعلان رسمي، ومن دون العودة للوسطاء أو إشعار السكان.

هذه الإزاحات، وإن كانت محدودة جغرافيًا، حملت دلالات أوسع لأنها تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تتعامل مع الخط كأداة إعادة رسم حدود ميدانية، لا كخط مؤقت يُفترض التراجع عنه.

4.  انتقال الخط من وظيفة “التثبيت الآني” إلى بنية أمنية قيد التشكل

مع مرور الوقت، أصبح الخط مساحة أمنية مبهمة تمتد على طول أجزاء واسعة من شرق القطاع، وتخضع لإشراف عسكري صارم، وتُستخدم لفرز الحركة، ومنع العودة، والتحكم بالطرق الحيوية.
وبذلك تحوّل من “خط انسحاب مؤقت” إلى نواة شريط أمني متحرك تعمل الحكومة الإسرائيلية على تطويره تدريجيًا تحت غطاء اتفاق وقف إطلاق النار ذاته.

ثانيًا: التحول الإسرائيلي – من خط مؤقت إلى شريط أمني متحرك

لم يلبث الخط الأصفر أن يغادر وظيفته الأصلية كـ “خط انسحاب مؤقت” حتى بدأ يتحول، تدريجيًا ومنهجيًا، إلى بنية أمنية حاكمة تُستخدم كمساحة سيطرة وضغط، وتؤدي عمليًا وظيفة “الشريط الأمني المتحرك” الذي لم يرد صراحة في الاتفاق، لكنه بات عنوانًا للمرحلة الميدانية الجديدة.

  1. توسّع جغرافي متدرّج ومقصود

تُظهر الوقائع الميدانية أن الحكومة الإسرائيلية تعاملت مع الخط كـ مسار قابل للتحريك، لا كحد ثابت:

أ. توسيع المنطقة العازلة شرق الخط

يقوم جيش الاحتلال، في عدة قطاعات، بإعادة تعريف “المسافة الآمنة” شرق الخط، بما يسمح له باحتلال نطاقات إضافية دون حاجة لإعلان رسمي، وهذا التوسع يجري أحيانًا عبر إزالة مبانٍ أو منع اقتراب السكان، ما يخلق “منطقة فارغة” تخدم الرؤية الأمنية الإسرائيلية.

ب. منع عودة السكان إلى المناطق المحاذية

تحوّل الخط من أداة تنظيمية للحركة المدنية إلى أداة تهجير ناعم، إذ يترافق وجوده مع قيود حادة على العودة، واعتبار المناطق المحاذية له “غير آمنة” أو “تحت تقييم أمني”، ما يحول دون استعادة الحياة الطبيعية.

ج. تحويل أجزاء من الخط إلى مناطق نيران مفتوحة

في مواقع متعددة، باتت المناطق الملاصقة للخط تُعامل كـ مناطق نار، يُستهدف من يقترب منها أو يتجاوزها، سواء عبر الرصاص، أو المسيّرات، أو الطائرات القتالية.

هذا يرسّخ وظيفة الخط كـ حدّ ردعي وليس مجرد مسار انسحاب.

2.  التحول في الخطاب العسكري والسياسي

تغيّر الخط في مفردات القادة الإسرائيليين قبل أن يتغير على الأرض، فقد مثّل تصريح رئيس أركان الجيش بأن الخط الأصفر حدود دفاعية جديدة” تحولًا لافتًا، لأنه للمرة الأولى يتم توصيفه كخط ذو طابع حدودي–أمني وليس مجرد عنصر في توقيتات تنفيذ الاتفاق.

وبالتوازي:

  • ربطت الحكومة الإسرائيلية الالتزام بالخط بمفهوم “الأمن طويل المدى”، بما يتجاوز أي ترتيبات انتقالية.
  • قدّم مسؤولون عسكريون الخط كجزء من “رؤية منع التهديد من غزة” وليس كجزء من آلية انتقاليّة مرتبطة بوقف النار.

هذا التحول في اللغة يعكس عملية سياسية مقصودة تهدف إلى رفع مكانة الخط من عنصر فني إلى جزء من “هندسة الوضع النهائي” في غزة.

3.  الاستخدام الميداني كأداة ضغط وسيطرة

على الأرض، تحوّل الخط إلى سياج أمني متحرك يُستخدم لضبط الحركة والضغط على الفلسطينيين في المناطق الغربية منه، وتشير تقارير متعددة إلى استخدام جيش الاحتلال لمجموعة أدوات متدرجة، أبرزها:

أ. الحواجز ونقاط المنع

إقامة نقاط تفتيش مؤقتة وثابتة قرب الخط، تمنع العبور أو تقيّده وفق تقييمات أمنية لحظية.

ب. المسيّرات

تسيير طائرات بدون طيار على امتداد الخط لمراقبة الحركة المدنية ومنع التجمعات، ولتنفيذ عمليات استهداف محدودة عند الاقتراب.

ج. التحذيرات الميدانية

استخدام مكبرات الصوت والرسائل الصوتية والتوجيهات الميدانية لإجبار السكان على الابتعاد عشرات وربما مئات الأمتار عن الخط، بما يجعل نطاقه قابلًا للاتساع عند الحاجة.

د. إطلاق النار عبر الهوامش

اللجوء إلى إطلاق النار في محيط الخط لتكريس “منطقة خوف” تمتد أبعد من المسار المرسوم، ما يحول الخط إلى أداة لإعادة توزيع القوة داخل القطاع، ويمنح الجيش قدرة على التحكم بالحركة المدنية والممرات الرئيسية.

بهذه الأدوات مجتمعة، نجحت الحكومة الإسرائيلية في إعادة تشكيل الخط الأصفر ليصبح بنية أمنية مرنة تُستخدم لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية وتفاوضية، وتؤسس لواقع يمكن البناء عليه في المرحلة التالية من الحرب.

ثالثًا: الاستخدامات الإسرائيلية للخط الأصفر – عسكرية، سياسية، تفاوضية

يمثّل الخط الأصفر اليوم أحد أهم عناصر المناورة الإسرائيلية في غزة، إذ لم يَعُد مجرد مسار انسحاب مؤقت، بل تحوّل إلى أداة مركّبة تُستخدم في ثلاثة مستويات متوازية: عسكرية، سياسية، وتفاوضية.

هذا التعدد الوظيفي يؤكد أن الحكومة الإسرائيلية لم تتعامل مع الخط بوصفه عنصرًا من عناصر وقف إطلاق النار، بل كبنية يمكن توظيفها لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية داخل القطاع.

أولًا: الاستخدام العسكري – تثبيت واقع أمني جديد شرق غزة

  1.  إنشاء منطقة أمنية موسعة دون الإعلان عنها

عبر منع الاقتراب وإطلاق النار التحذيري واستخدام المسيّرات، أصبح الخط الأصفر محورًا لإنشاء حزام أمني فعلي شرق غزة.
لا تعلن الحكومة الإسرائيلية عنه كـ “منطقة عازلة” رسميًا، لكنها تتعامل معه ميدانيًا بوصفه كذلك، ما يتيح لها:

إبعاد المواطنين العُزل والمقاومين عن تخوم المناطق الشرقية، خلق فراغ سكاني يخدم عمليات المراقبة والرصد، وتوسيع هامش المناورة العسكرية دون الدخول في تفاصيل سياسية.

2.  إعادة هندسة الإمدادات والطرق

سيطرة جيش الاحتلال على المناطق المحيطة بالخط تمنحه ميزة استخباراتية ورؤية أفضل لمسارات الحركة داخل القطاع.
فالخط يُستخدم كمنصة للتحكم بـ:

الطرق الفاصلة بين الشمال والجنوب، المساحات الزراعية المفتوحة، والفراغات الجغرافية التي تُعد مسارًا تقليديًا لتحرك المقاومة أو السكان.

وبهذا يتحول الخط إلى أداة لإعادة هندسة الحركة داخل غزة لخدمة الهيمنة العسكرية الإسرائيلية.

3.  تقييد حرية الحركة الفلسطينية

يُعيد الخط تشكيل الجغرافيا اليومية للسكان، إذ:

يمنع الوصول إلى مناطق زراعية حيوية شرق القطاع، يفرض قيودًا صارمة على المرور بين التجمعات السكانية، ويقطع الترابط الطبيعي بين المناطق الشرقية والغربية.

والنتيجة: خنق الحركة الفلسطينية بطريقة لا تُعلن كسياسة رسمية، لكنها تؤدي وظيفة أمنية استراتيجية.

4.  إضعاف البنية العسكرية للمقاومة

من خلال تحويل الخط إلى حافة رصد واختراق، يستطيع جيش الاحتلال مراقبة أي نشاط للمقاومة غربه، ويسمح ذلك بــــــ: قراءة مؤشر الحركة على طول الخط، تقدير نشاط الأنفاق أو الانسحاب التكتيكي، فرض ضغط استخباراتي مستمر دون الحاجة للاجتياح المباشر.

ثانيًا: الاستخدام السياسي – تكريس وقائع ما قبل أي تسوية

  1.  فرض حقائق ميدانية كبُنية تفاوضية مستقبلية

تقدّم الحكومة الإسرائيلية الخط الأصفر للمجتمع الدولي بوصفه “واقعًا قائمًا” نشأ في سياق وقف إطلاق النار، وبالتالي يجب أخذه بالحسبان عند بحث مستقبل غزة.

هذا يعكس رغبة الحكومة الإسرائيلية في تحويل الخط من آلية تنفيذية إلى أساس هندسي سياسي يوظّف لاحقًا في رسم ترتيبات ما بعد الحرب.

2.  ربط إعادة الإعمار بالترتيبات الأمنية

تسوّق الحكومة الإسرائيلية وجود الخط على أنه “شرط أمني” لسلامة فرق الإعمار والمشاريع الدولية، ما يجعل بقاءه جزءًا من:

شروط التمويل الدولي، معايير عمل المؤسسات الإنسانية، وبروتوكولات الحماية الميدانية.

وبهذا تُقحَم إعادة الإعمار في منظومة الأمن الإسرائيلية.

3. فرض رؤية أمنية–إدارية لغزة

الخط يشكل إطارًا عمليًا لخطاب سياسي إسرائيلي يدفع باتجاه:

“مساحة آمنة” شرقي القطاع، ترتيبات أمنية دائمة دون عودة الاحتلال الشامل، ومشاركة دولية في إدارة مناطق معينة ضمن شروط إسرائيلية.

وهذا يتقاطع مع أفكار “النموذج اللبناني” أو “الفصل الأمني الطويل”.

4.  خلق تقسيم جغرافي غير معلن

وجود الخط يسهّل مستقبلًا أي محاولة لإعادة السيطرة على “المنطقة الشرقية” أو إدارتها عبر:

عصابات عميلة مدعومة من الاحتلال، ترتيبات أمنية جديدة،أو عمليات عسكرية متكررة.

كل ذلك دون الحاجة إلى إعلان حدود رسمية.

ثالثًا: الاستخدام التفاوضي – تحويل المؤقت إلى ورقة مساومة

  1.  توظيف الخط كورقة ضغط

أصبح الخط عنصرًا تفاوضيًا بامتياز، إذ يمكن للحكومة الإسرائيلية أن:

تلوّح بالتقدم أو التراجع عنه، تربط هذا التراجع بملفات حساسة، وتستخدمه لإبطاء تنفيذ الهدنة أو دفع شروط جديدة.

وبذلك يتحول الخط إلى مخزون تفاوضي.

2.  ابتزاز المقاومة

من خلال الإيحاء بأن أي تراجع إضافي وراء الخط يتطلب “ثمنًا”، سواء كان:

تنازلًا سياسيًا، ترتيبات أمنية، أو تغييرًا في شروط صفقة الأسرى.

الخط هنا ليس مسارًا جغرافيًا، بل سقفًا تفاوضيًا.

3. استخدام الخط لتعقيد عودة السكان

إبقاء حالة “عدم اليقين” حول مكان الخط، واتساعه، ونوعية التعامل معه، يجعل عودة السكان إلى مناطقهم ورقة تفاوض بحد ذاتها.

هذا يخلق ضغطًا إنسانيًا–اجتماعيًا تُوظّفه الحكومة الإسرائيلية للتأثير على مسار المحادثات.

4.  تثبيت المؤقت كدائم حتى إشعار آخر

من خلال التباطؤ في إعادة الانتشار والتوسع التدريجي شرق الخط، يتحول المؤقت إلى نظام دائم عمليًا، يمنح الحكومة الإسرائيلية وقتًا أطول لفرض رؤيتها دون أن تتحمل التزامات سياسية أو قانونية.

رابعًا: مآلات استخدام الخط الأصفر – بين التقنين والتوظيف الاستراتيجي

تُظهر القراءة التحليلية لمسار تحوّل الخط الأصفر من بند فني في اتفاق وقف إطلاق النار إلى أداة ميدانية بيد الحكومة الإسرائيلية أن المآلات المحتملة لا تتوزع بالتساوي، بل تميل بوضوح نحو تثبيت بنية أمنية مرنة تتجاوز حدود الاتفاق الأصلي، وتتراوح هذه المآلات بين ما هو “ممكن” وما هو “مرجّح” وما هو “أقرب إلى التحقق فعليًا على الأرض”.

أولًا: تقنين الشريط الأمني المتحرك (احتمال مرجَّح جدًا)

رغم غياب إعلان رسمي، تتجه الحكومة الإسرائيلية نحو تثبيت الشريط الأمني باعتباره جزءًا من “واقع ما بعد الحرب”.
ويشبه هذا النموذج إلى حد كبير “المنطقة الأمنية” التي أقامها الكيان الإسرائيلي في جنوب لبنان قبل عام 2000:

وجود عسكري غير معلَن لكنه دائم، مرونة في التمدد أو التراجع، استخدامه كحزام عازل دون التزامات سياسية واضحة.

هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا نظرًا لتلاقي ثلاثة عوامل:

  1. الرغبة العسكرية في تقليل الاحتكاك،
  2. الضغط السياسي الداخلي الإسرائيلي،
  3. قبول دولي ضمني لأي ترتيبات “تقلل التصعيد”.

ثانيًا: خلق واقع تقسيمي داخلي في غزة (احتمال مرتفع)

يتجه الخط تدريجيًا نحو خلق خط فاصل فعلي بين شرق القطاع وغربه.

ليس تقسيمًا معلنًا، بل تقسيمًا وظيفيًا ناتجًا عن:

منع الحركة، السيطرة على الطرق،خلق مناطق “محظورة”،إعادة توزيع السكان.

وتستفيد الحكومة الإسرائيلية من هذا الواقع لتشكيل بيئة أمنية جديدة تُسهل التحكم بالمجال الحيوي لغزة، وتمنع تشكل “كتلة جغرافية واحدة” قادرة على استعادة قدرات عسكرية أو إدارية مستقلة.

هذا المآل مرجّح بدرجة عالية لأنه يتحقق بالفعل على الأرض في مناطق متعددة.

ثالثًا: إعادة تعريف الاحتلال بنمط جديد (احتمال متوسط–مرتفع)

الخط الأصفر يفتح الباب أمام شكل جديد من أشكال السيطرة الإسرائيلية:

لا احتلال شامل، ولا انسحاب كامل، بل احتلال متحرك بطول متغير.

ويقوم هذا النمط على:

نقاط سيطرة متنقلة، مناطق نار موسمية، انسحابات تكتيكية بلا طابع سياسي، القدرة على الدخول والخروج دون كلفة قانونية.

هذا السيناريو يتصاعد تدريجيًا لكنه يعتمد على الموقف الدولي وعلى قدرة الحكومة الإسرائيلية على ضبط “كلفة الاحتكاك” مع السكان.

رابعًا: تأثير مباشر على المقاومة – بنية مراقبة مستدامة (احتمال مرتفع)

يتحول الخط إلى أنبوب مراقبة متقدم، يسمح للحكومة الإسرائيلية بـ:

قراءة الحركة العسكرية غرب الخط،مراقبة عمليات إعادة الانتشار، تعطيل بناء القوة، ضرب البنية التحتية للمقاومة قبل اكتمالها.

هذا التأثير يكاد يكون قائمًا بالفعل، وهو أحد الأهداف المركزية لتحويل الخط إلى بنية أمنية متحركة.

خامسًا: إدماج الخط في معادلات التفاوض الإقليمية والدولية (احتمال مرتفع)

تستخدم الحكومة الإسرائيلية الخط لتعزيز حججها أمام الوسطاء (الولايات المتحدة ،مصر، قطر) بأن:

استمرار وجوده ضرورة “أمنية”، إزالته تتطلب ترتيبات أوسع تشمل حدود غزة كلها، أي تغيير فيه يعود إلى سياق “تقدم في الملفات التفاوضية”.

وبذلك يصبح الخط جزءًا من هندسة التفاوض حول غزة، وليس فقط معادلة ميدانية.

وهذا السيناريو مرجّح بدرجة كبيرة لأنه يخدم الحكومة الإسرائيلية في ملفات:

الإعمار – الأسرى – ترتيبات اليوم التالي – إدارة الحدود.

الترجيح العام للمآلات

عند جمع المعطيات، يمكن ترتيب السيناريوهات حسب الأقرب للتحقق:

  1. تقنين الشريط الأمني المتحرك – مرتفع جدًا
  2. خلق واقع تقسيمي داخلي – مرتفع
  3. تثبيت بنية مراقبة ضد المقاومة – مرتفع
  4. توظيف الخط في التفاوض الإقليمي – مرتفع
  5. احتلال متحرك بنمط جديد – متوسط–مرتفع

ما يؤكد أن الخط الأصفر لم يعد خطوة تنفيذية هامشية، بل مشروعًا أمنيًا–سياسيًا مستمرًا يتجاوز حدود الاتفاق ويعيد صياغة مستقبل غزة.

خلاصة

تكشف دراسة “الخط الأصفر” أو ما بات يُعرف بـ”الشريط الأمني المتحرك” عن تحوّل نوعي في المقاربة الإسرائيلية لإدارة غزة بعد الحرب، فحكومة الاحتلال لا تتعامل مع الخط كإجراء تقني مؤقت مرتبط بترتيبات وقف إطلاق النار، بل كأداة لإعادة تشكيل البيئة الجغرافية والأمنية والسياسية داخل القطاع. لقد تحوّل الخط تدريجيًا إلى نواة شريط أمني متحرك، قابل للتوسع والانكماش، يتيح للحكومة الإسرائيلية فرض حدود وظيفية جديدة دون الاعتراف بها رسميًا، ويُعيد تعريف شكل الاحتلال بمعادلة هجينة لا هي انسحاب كامل ولا هي سيطرة مباشرة.

وعلى المستوى الميداني، أدّى تثبيت هذا الخط إلى خلق شكل من الفصل الداخلي بين شرق القطاع وغربه، مع استخدام مكثّف لأدوات التحكم العسكري، من الطائرات المسيّرة إلى إطلاق النار التحذيري، بما يجعل الخط عمليًا سياجًا متحركًا يضبط الحركة ويعيد توزيع موازين القوة، أما سياسيًا، فقد بات الخط جزءًا من خطاب الأمن الإسرائيلي طويل المدى، ومكوّنًا يتم توظيفه في النقاشات مع الولايات المتحدة ومصر حول ترتيبات ما بعد الحرب.

أما مآلات هذا المسار فتشير إلى ثلاثة اتجاهات مرجّحة: الأول، تقنين الشريط الأمني المتحرك دون إعلان رسمي؛ والثاني، ترسيخ واقع تقسيمي داخل غزة يغيّر طبيعة الإدارة والسيطرة؛ والثالث، إدماج الخط في المعادلة التفاوضية الإقليمية كحاجة أمنية إسرائيلية مزعومة، قد تصطدم لاحقًا برفض فلسطيني داخلي وبممانعة إقليمية تعتمد على مستوى الضغط الدولي.

في المحصلة، يظهر أن “الخط الأصفر” ليس تفصيلًا ميدانيًا معزولًا، بل مشروع متكامل يسعى لإعادة هندسة غزة أمنياً وسياسياً عبر آلية تدريجية تراكمية، وهذا يتطلب مقاربة فلسطينية إعلامية وسياسية وأمنية واعية تحبط محاولات شرعنته أو دمجه في أي ترتيبات مستقبلية.

التــوصيــــات

  1. التأكيد الرسمي الموحد من مختلف القوى والمؤسسات الفلسطينية على رفض تحويل “الخط الأصفر” إلى حدود أمر واقع أو ترتيبات أمنية دائمة داخل قطاع غزة.
  2. تنشيط التحرك الدبلوماسي والقانوني الدولي لاعتبار الممارسات الإسرائيلية المرتبطة بالخط محاولة غير مشروعة لإعادة ترسيم الحدود بالقوة، ورفع الملف إلى هيئات الأمم المتحدة، بما فيها مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.
  3. إعداد ملف قانوني فلسطيني موثق يرصد الانتهاكات المرافقة للشريط الأمني، بما في ذلك منع العودة، تحويل مناطق واسعة إلى “مناطق نار”، وسياسات التهجير القسري.
  4. إنشاء منظومة رصد وطنية ترصد بشكل دوري ومستمر أي توسع إسرائيلي في المناطق المحيطة بالخط، وإصدار تقارير دورية موثقة حول التغيرات الميدانية.
  5. إحباط محاولات الاحتلال توظيف الخط لأغراض أمنية داخلية عبر تعزيز الوعي المجتمعي بطبيعة المشروع وأهدافه وتداعياته.
  6. إطلاق خطاب إعلامي موحّد يكشف حقيقة “الخط الأصفر” باعتباره آلية لفرض حدود جديدة وتقسيم القطاع، وليس مجرد إجراء ميداني مؤقت.
  7. استثمار الدعم الدولي لجهود إعادة الإعمار للضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل وقف أي محاولة لفرض وقائع جديدة شرق غزة كشرط مسبق.
  8. التعاون مع مؤسسات حقوقية دولية لإعداد تقارير ظل تقدم بصورة دورية إلى آليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة.

المركز الفلسطيني للدراسات السياسية- ديسمبر2025

شارك:

المزيد من المقالات

انهيار منظومة حماية الطفولة في غزة: تحليل لواقع الأطفال في ظل الحرب والتجويع وانهيار الخدمات الصحية

تستعرض الورقة بدائل السياسات الممكنة، بما في ذلك تفعيل القنوات الإنسانية الدولية، وتخلص الورقة إلى أن حماية الأطفال في غزة ليست مجرد خيار إنساني، بل ضرورة استراتيجية لضمان مستقبل الأجيال القادمة