انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني: فرصة للإصلاح أم تكريس للانقسام؟

أولًا: المقدمة

أعلن الرئيس محمود عباس عن نيّته الدعوة إلى انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية عام 2025، في خطوةٍ وُصفت بأنها محاولة لإحياء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وتحريك الجمود الذي يعتري بنية النظام السياسي الفلسطيني منذ سنوات، وقد جاءت هذه الدعوة في توقيت بالغ الحساسية، تتعمّق فيه تداعيات الانقسام الداخلي، وتتصاعد فيه حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، ما يفرض سياقات استثنائية على أي استحقاق سياسي أو وطني.
ورغم ما تحمله هذه الخطوة من شعارات تتصل بإعادة بناء المنظمة على أسس ديمقراطية، وتوسيع قاعدة التمثيل الوطني، فإنها وُوجهت برفض صريح من قوى سياسية رئيسية، وعلى رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي اعتبرت الدعوة تفردًا في القرار الوطني، وتجاوزًا للتوافقات الفلسطينية السابقة، لا سيما ما تم الاتفاق عليه في لقاءات المصالحة، ويذهب منتقدو الخطوة إلى أنها تُعيد إنتاج الإقصاء تحت غطاء الانتخابات، في ظل غياب ضمانات وطنية وسياسية وقانونية تكفل الشراكة وتمثيل الكل الفلسطيني، بما في ذلك فلسطينيي الشتات وسكان القدس المحاصَرين.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل أبعاد هذه الدعوة، وقراءة ما تنطوي عليه من فرص وتحديات، في ضوء تعقيدات اللحظة الفلسطينية الراهنة، وسياقاتها السياسية والميدانية، وتوازنات القوى القائمة، وصولًا إلى تقدير سيناريوهات محتملة لمآلات هذه المبادرة، وتأثيرها على مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، ووحدة التمثيل الوطني.

ثانيًا: خلفية سياسية وقانونية

يشكّل المجلس الوطني الفلسطيني الهيئة التشريعية العليا لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويمثل الفلسطينيين في الداخل والخارج، وقد تأسس عام 1964، وجرى تعديل عضويته عدة مرات خلال العقود الماضية، إلا أن تركيبته الحالية لم تُعدّل منذ الدورة الأخيرة التي عقدت في رام الله عام 2018، وسط مقاطعة عدد من الفصائل الرئيسة.
وبينما يفترض أن يُنتخب المجلس الوطني ديمقراطيًا، إلا أن هذه الآلية لم تُطبّق فعليًا منذ نشأة المنظمة، بل جرى تشكيله في معظم الأحيان عبر التوافق أو التعيين.
ومنذ توقيع اتفاق أوسلو، تراجعت صلاحيات المجلس الوطني لصالح السلطة الفلسطينية، ما جعل من دوره أقرب إلى الرمزي في معظم المحطات السياسية، وقد ظلت منظمة التحرير مرجعيةً رسمية دون تطوير فعلي في بنيتها أو آليات عملها، ما زاد من حدة التساؤلات حول تمثيلها، وجدوى مؤسساتها، خاصة في ظل الانقسام، وظهور مشاريع سياسية متباينة تطرح رؤى متضاربة لمستقبل الكيان السياسي الفلسطيني.
بذلك، يُمثّل النقاش حول المجلس الوطني نقاشًا أوسع حول مستقبل منظمة التحرير، وسبل إصلاحها أو إعادة بنائها، بما ينسجم مع ضرورات التمثيل الوطني العادل والتوافق السياسي. فالانتخابات قد تكون وسيلة للإصلاح، لكنها قد تتحوّل إلى وسيلة لتكريس التفرّد والهيمنة إن لم تُستند إلى توافق وطني شامل ومسبق.

ثالثًا: موقف الرئيس عباس وسياسته في طرح الانتخابات

في يونيو 2025، أعلن الرئيس محمود عباس عن عزمه الدعوة لإجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني قبل نهاية العام، في خطوة منفردة لم تسبَقها مشاورات وطنية شاملة أو توافق مع بقية الفصائل، لا سيّما تلك التي تقاطع هيئات منظمة التحرير أو ترى ضرورة إصلاحها قبل إعادة تشكيلها.
وبرغم أن الدعوة للانتخابات تمثل في ظاهرها استجابة لمطالب قديمة بإعادة تفعيل مؤسسات منظمة التحرير، إلا أن مضامين الطرح الرئاسي كشفت عن شروط سياسية مثيرة للجدل، أبرزها اشتراط الالتزام الكامل ببرنامج منظمة التحرير بصيغته الحالية، بما في ذلك التزاماتها السياسية والدولية، وهي الشروط التي رأت فيها قوى عديدة إعادة إنتاج لأزمة الشرعية وتكريس لنهج الإقصاء السياسي.
يتّسق هذا الطرح مع سياسة الرئيس محمود عباس التي لطالما ارتكزت على الحفاظ على البنية القائمة للمنظمة، والتمسك بالاتفاقيات الدولية، مقابل تغييب الخيارات الأخرى للمقاومة السياسية أو الكفاحية، كما يتناقض مع مخرجات الحوارات الوطنية التي نُظمت في القاهرة وبكين، والتي أكدت على ضرورة الشراكة السياسية الكاملة كأساس لأي عملية إعادة بناء أو انتخاب.
في هذا السياق، تُقرأ الدعوة للانتخابات ليس فقط كآلية لتنشيط المجلس الوطني، بل أيضًا كمحاولة لإعادة شرعنة القيادة الفلسطينية الرسمية في لحظة إقليمية ودولية حرجة، تتصاعد فيها الضغوط على السلطة، وتتآكل فيها شرعيتها الميدانية، خصوصًا في الضفة الغربية وقطاع غزة.

رابعًا: مواقف القوى السياسية من الدعوة للانتخابات

  • الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
    رفضت الجبهة بشكل قاطع قرار الرئيس، معتبرة أنه “يقفز عن التوافق الوطني”، ويشكل “خروجًا على القرارات الجماعية”، ويمثل “خطوة أحادية تفتقد إلى الشرعية الوطنية”، وشددت على أن أي انتخابات يجب أن تكون ثمرة توافق وطني شامل، وبموجب مخرجات الحوارات الفلسطينية الأخيرة، وبما يضمن شمولية التمثيل والتهيئة السياسية المناسبة.
    كما انتقدت الجبهة ما سمّته “الشروط المسبقة” للترشح، خصوصًا الالتزام الكامل ببرنامج منظمة التحرير الحالي، الذي يتضمن اتفاقيات أوسلو وسائر التزامات السلطة، مؤكدة أن هذه الشروط تُقصي طيفًا واسعًا من الفاعلين، وتعيد إنتاج الأزمة بدلًا من معالجتها.
  • حماس
    لم يصدر عن حركة حماس بيان رسمي حول قرار إجراء الانتخابات، لكنها على مدى السنوات الماضية ربطت مشاركتها في المجلس الوطني بإعادة بناء منظمة التحرير على قاعدة الشراكة السياسية الحقيقية، ورفضت أن تكون هذه المشاركة شكلية أو مشروطة.
    وفي ظل الحرب الجارية على غزة، يُتوقع أن ترفض الحركة إجراء انتخابات في ظل العدوان والظروف القاهرة التي يعيشها القطاع.
  • فصائل أخرى
    اتخذت الجبهة الديمقراطية موقفًا متوازنًا، داعية إلى ضرورة التوافق الوطني قبل أي خطوة عملية، بينما عبّرت فصائل صغيرة داخل منظمة التحرير عن تأييدها للدعوة، بحكم ارتباطها السياسي والإداري بالسلطة، أما المبادرة الوطنية الفلسطينية، فطالما دعت إلى تفعيل المنظمة ديمقراطيًا، لكنها شددت في بيانات سابقة على رفض التفرد، وضرورة التوافق الوطني كأساس للمشروعية.
  • المستقلون وفعاليات الشتات
    عبّرت شخصيات وطنية في الداخل والخارج عن قلقها من الدعوة للانتخابات، دون ضمانات لشمولية التمثيل ومشاركة الشتات، وغياب آليات انتخابية شفافة في ظل الانقسام وتقييد الحريات.

خامسًا: تحديات العملية الانتخابية

تبرز عدة تحديات بنيوية وميدانية تجعل من إجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، في ظل الظروف الحالية، أمرًا بالغ التعقيد، بل محفوفًا بالمخاطر السياسية والوطنية. وتشمل هذه التحديات ما يلي:

  1. الحرب الجارية على قطاع غزة
    منذ أكتوبر 2023، يتعرض قطاع غزة لحرب إبادة غير مسبوقة شنّها الاحتلال الإسرائيلي، طالت البشر والحجر والبنية التحتية، وخلّفت ملايين النازحين وعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، إلى جانب انهيار مؤسسات الدولة، بما فيها السجلات المدنية والمراكز الانتخابية، في هذا السياق، يصبح الحديث عن إجراء انتخابات شاملة في القطاع بلا مضمون فعلي، بل قد يُنظر إليه كغطاء سياسي يتجاوز الواقع الكارثي الذي يعيشه القطاع.
  2. القدس تحت التهويد والسيطرة الأمنية
    تُعدّ مشاركة القدس في أي انتخابات وطنية معيارًا رئيسيًا لشرعيتها السياسية والوطنية، إلا أن الإجراءات الإسرائيلية المستمرة في المدينة – من تهويد وأسرلة وقمع للوجود الفلسطيني – تجعل من الصعب بل من المستحيل تنظيم أي عملية انتخابية فيها، دون صدام مع الاحتلال، ومع غياب الضمانات الدولية الحقيقية لإجراء الانتخابات في القدس، تصبح مشاركة أهل المدينة مجرد شعار، لا يمكن ضمان تطبيقه عمليًا.
  3. الضفة الغربية والقيود السياسية
    رغم خضوعها لسيطرة السلطة الفلسطينية من الناحية الإدارية، تعاني الضفة الغربية من تضييق سياسي متزايد، يتمثل في تقييد حرية التعبير والعمل الحزبي، واعتقال المعارضين السياسيين، وتفكيك الحراكات الشبابية، ما يُضعف بيئة الحريات المطلوبة لأي انتخابات حرة ونزيهة، أضف إلى ذلك اختلال الثقة بين المواطن والمؤسسة الرسمية، والتشكيك الواسع في نوايا السلطة.
  4. الشتات الفلسطيني
    رغم أن الفلسطينيين في الشتات يشكّلون النسبة الأكبر من الشعب الفلسطيني، إلا أنهم لا يزالون مهمّشين من النظام السياسي القائم، وتنظيم الانتخابات في بلدان اللجوء (لبنان، سوريا، الأردن، أوروبا، الأميركيتين…) يصطدم بعقبات قانونية وسياسية ولوجستية كبيرة، تتعلق بسيادة الدول المضيفة، وقوانينها، والرقابة الدولية، فضلًا عن غياب خطة واضحة أو آلية تقنية مضمونة لمشاركتهم.
  5. الانقسام السياسي والمؤسساتي
    الانقسام بين حركتي فتح وحماس، وما انبثق عنه من سلطتين متوازيتين في الضفة وغزة، أدى إلى تآكل شرعية المؤسسات الفلسطينية، وتجميد منظمة التحرير كإطار جامع، وفي ظل غياب أي اتفاق وطني حقيقي، تُعدّ أي خطوة منفردة لإعادة تشكيل المجلس الوطني تعميقًا لهذا الانقسام، وإضعافًا لفكرة الشراكة الوطنية.
  6. غياب الضمانات الوطنية والدولية
    لا توجد أي ضمانات حقيقية تكفل احترام نتائج الانتخابات، أو حيادية العملية، أو مشاركة جميع القوى، كما أن عدم وجود لجنة وطنية توافقية مشرفة على الانتخابات، وغياب دور حقيقي للمجتمع المدني والشتات، يطرح علامات استفهام كبرى حول نزاهة أي انتخابات قد تُجرى في هذا السياق المتأزم.

سادسًا: التحركات الإقليمية وضغوط “اليوم التالي”: البُعد غير المُعلن للانتخابات

رغم أن ملف الانتخابات يُطرح غالبًا كاستحقاق داخلي ديمقراطي، إلا أن التطورات الإقليمية بعد حرب غزة تُشير إلى أبعاد أعمق لهذا الطرح، تتقاطع مع رغبة بعض العواصم العربية، وعلى رأسها القاهرة، في إعادة تشكيل البنية السياسية الفلسطينية، بما يتناسب مع ترتيبات “اليوم التالي” للحرب.
في هذا السياق، يبدو أن الدعوة لتجديد الشرعيات ليست بمعزل عن مشروع سياسي إقليمي ودولي لإعادة تعريف التمثيل الفلسطيني الرسمي، خاصة من خلال إعادة تنشيط المجلس الوطني الفلسطيني، وفق تصور يُفضي إلى تحييد حماس وفصائل المقاومة أو تقليص نفوذها. وتُستخدم في ذلك مقايضة “التمثيل مقابل الالتزام”، أي اشتراط القبول ببرنامج منظمة التحرير واتفاقياتها الدولية، بوصفه معيارًا للانخراط في المشهد الرسمي، ما يعني عمليًا فرض سقف سياسي وإقصاء منهجي للفواعل المقاومة.
وفي هذا الإطار، تتجلى تحركات القاهرة في عدة مسارات متوازية، منها محاولات إعادة دمج تيار دحلان في بنية فتح، والضغط من أجل تعيين نائب للرئيس عباس، في ظل حالة التردد والمماطلة التي يبديها، مع تصاعد القلق الإقليمي من سيناريو الفراغ السياسي بعد غياب عباس.
كما تروَّج أسماء بعينها، مثل حسين الشيخ، كوريث محتمل للمشهد السياسي الفلسطيني، وسط تآكل مستمر لمؤسسات السلطة والمنظمة، وتراجع فعلي لشرعية القيادة الرسمية، بما يعزز الحاجة الإقليمية والدولية إلى إنتاج “عنوان بديل” يمكن التعامل معه في مرحلة ما بعد عباس، وتحت سقف سياسي يمكن التحكم به.
وبالتالي، فإن أي قرار بإجراء الانتخابات لا يمكن فصله عن هذا السياق الإقليمي والدولي الضاغط، الذي يهدف إلى استباق التحولات القادمة، وصياغة نظام سياسي فلسطيني “مُدار” بوساطة إقليمية، يسد الفراغ، ويُعيد إنتاج الشرعية، ويُطبع طبيعة المشروع السياسي الفلسطيني مع الشروط الدولية، بعيدًا عن أي حضور مستقل للقوى المقاومة.

سابعًا: السيناريوهات المتوقعة

في ظل المشهد السياسي والوطني المعقد المحيط بقرار الرئيس الفلسطيني إجراء انتخابات للمجلس الوطني، يمكن رسم ثلاث سيناريوهات رئيسية لمسار هذه المبادرة وتداعياتها المحتملة، لكل منها فرصه وتحدياته:

السيناريو الأول: المضي قدمًا في الانتخابات بشكل أحادي
الوصف:
تمضي القيادة الفلسطينية الرسمية في تنفيذ خطتها لإجراء انتخابات المجلس الوطني، دون توافق وطني، وبالشروط السياسية والتنظيمية التي وضعتها، بما في ذلك اشتراط الالتزام ببرنامج منظمة التحرير.
النتائج المحتملة:

  • مقاطعة قوى رئيسية (مثل حماس والجبهة الشعبية وربما فصائل أخرى).
  • مشاركة جزئية وهامشية من فئات محسوبة على السلطة، ما يؤدي إلى تمثيل ناقص وغير شامل.
  • تعميق الانقسام السياسي والمؤسساتي.
  • اهتزاز شرعية المجلس الجديد وعدم اعتراف جزء واسع من الفلسطينيين به.
  • تحويل المجلس الوطني إلى مؤسسة شكلية خاضعة للسلطة التنفيذية.

السيناريو الثاني: التراجع عن الانتخابات أو تأجيلها
الوصف:
تتراجع القيادة الفلسطينية عن قرارها تحت ضغط الرفض الفصائلي، والظروف الميدانية غير الملائمة، وتعلن تأجيل الانتخابات إلى حين توافر توافق وطني وظروف مناسبة.
النتائج المحتملة:

  • تجنّب انفجار أزمة شرعية وطنية.
  • استمرار حالة الجمود السياسي وتعطّل إصلاح منظمة التحرير.
  • بقاء المجلس الوطني الحالي غير التمثيلي، وتراجع دوره.
  • الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك السياسي في ظل الحرب على غزة.
  • خيبة أمل لدى بعض النخب التي كانت تأمل بخطوة إصلاحية ولو محدودة.

السيناريو الثالث: الاتجاه إلى توافق وطني شامل قبل الانتخابات
الوصف:
تنفتح القيادة الفلسطينية على حوار وطني جاد مع كل الفصائل والقوى السياسية، برعاية عربية أو دولية، بهدف التوافق على آليات وشروط إجراء انتخابات شاملة تمثّل الكل الفلسطيني، على أساس مخرجات القاهرة وإعلان بكين.
النتائج المحتملة:

  • استعادة جزء من الثقة الشعبية بالعمل الوطني والمؤسسات التمثيلية.
  • توسيع الشرعية السياسية للمجلس الوطني ومؤسسات المنظمة.
  • تحسين قدرة الفلسطينيين على مواجهة التحديات المصيرية بشكل جماعي.
  • إمكانية تأجيل الانتخابات لفترة انتقالية، مع التوافق على آليات إصلاح المنظمة خلال تلك الفترة.
  • رفع مستوى التمثيل للفلسطينيين في الشتات وغزة والقدس.

مناقشة السيناريوهات
تختلف السيناريوهات الثلاثة المطروحة في فرص النجاح، ومستوى الشرعية، وتأثيرها على الانقسام الفلسطيني، كما تختلف في احتمال تحققها على أرض الواقع:

  • المضي الأحادي: فرص النجاح منخفضة بسبب غياب التوافق، ما يؤدي إلى شرعية جزئية ويُعمّق الانقسام، رغم ذلك، يُعتبر هذا السيناريو الأقرب للتحقق في المدى القصير، نظرًا لإصرار القيادة الحالية على المضي فيه كخيار واقعي وسط الأزمات السياسية.
  • التأجيل: يوفر فرصة متوسطة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، لكنه يحافظ على حالة الجمود مع شرعية مجمدة ويبقي الانقسام قائمًا، وهذا السيناريو يحتمل الاستمرار لفترة كخيار وسط، لكنه لا يقدم حلولًا جذرية.
  • التوافق الوطني الشامل: يمنح فرص نجاح مرتفعة نظريًا، ويكسب شرعية قوية وشاملة، ويعزز الوحدة الوطنية ويقلل الانقسام، ومع ذلك، يواجه هذا الخيار عقبات كبيرة في التطبيق بسبب الانقسام العميق وضعف الإرادة السياسية، مما يجعل فرص تحققه أقل في المدى القريب.

ثامنًا: التقدير السياسي العام

تكشف الدعوة التي أطلقها الرئيس محمود عباس لإجراء انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني عن تعقيد المشهد السياسي الفلسطيني، وانقسام الرؤى بين من يرى في الانتخابات وسيلة إصلاح وتفعيل، وبين من يراها خطوة أحادية تُعيد إنتاج الأزمة الوطنية في ثوب دستوري.
من الناحية الشكلية، تمثل الدعوة إلى الانتخابات استجابة ظاهرية لمطلب شعبي وفصائلي طال انتظاره، يتمثل في تفعيل مؤسسات منظمة التحرير وتوسيع قاعدة تمثيلها، غير أن جوهر المبادرة، كما صيغت من قبل الرئيس، يكشف عن غياب الحد الأدنى من الإرادة التشاركية، وإصرار على فرض صيغة سياسية مسبقة تستبعد مكونات وطنية رئيسية، وتقنن التفرد بالقرار الفلسطيني.
تأتي هذه الخطوة في لحظة سياسية حرجة، تتزامن مع حرب إبادة إسرائيلية مستمرة على قطاع غزة، وتصاعد عمليات القمع والتهويد في القدس، وانكشاف عميق لبنية السلطة الفلسطينية، سواء من جهة الشرعية السياسية أو من جهة الأداء المؤسسي.
ويبدو أن السياق العام لا يسمح بإجراء انتخابات عادلة وشاملة، ما يجعل إصرار القيادة على المضي فيها دون توافق، أقرب إلى محاولة لإعادة إنتاج الشرعية عبر مؤسسات مغلقة، بدلًا من فتح أفق سياسي جديد يعيد بناء النظام السياسي على أسس وطنية وديمقراطية حقيقية.
في المقابل، تمثل المواقف الرافضة – وفي مقدمتها موقف الجبهة الشعبية – تعبيرًا عن تمسّك جزء واسع من القوى الوطنية بمبدأ الشراكة، ورفض استخدام المؤسسات الوطنية كأدوات في صراع النفوذ الداخلي.
كما تشير إلى إدراك متزايد لأهمية إعادة بناء المنظمة على قاعدة توافقية، تربط بين تمثيل الداخل والخارج، وتعيد صياغة البرنامج الوطني بما يعكس مرحلة المقاومة الشاملة، لا مرحلة التسوية الفاشلة.
من منظور وطني شامل، فإن أي عملية انتخابية لا تقوم على أساس توافق وطني، وشروط نزيهة، ومشاركة فعلية للقدس وغزة والشتات، ستبقى محاطة بالشبهات، ومعرّضة للرفض، وقد تفشل في تحقيق الحد الأدنى من الشرعية السياسية التي تبرر انعقادها.
كما أن غياب الأفق السياسي، والانقسام القائم، والواقع الكارثي في غزة، كلها تجعل من الانتخابات في شكلها الحالي خطوة قاصرة، بل ومضرة.

تاسعًا: التوصيات

استنادًا إلى ما سبق من تحليل، تُوصي الورقة بالآتي:

  1. وقف المسار الأحادي فورًا
    يجب التراجع عن الدعوة الأحادية لإجراء انتخابات المجلس الوطني، ووقف كل الإجراءات العملية المتصلة بها، إلى حين توفر توافق وطني شامل يضمن نزاهتها وشرعيتها وتمثيلها لكل مكونات الشعب الفلسطيني.
  2. إطلاق حوار وطني شامل
    الدعوة الفورية لحوار وطني جاد، بمشاركة كافة الفصائل والقوى السياسية وممثلي الشتات والمجتمع المدني، برعاية عربية أو أممية إن لزم، بهدف التوافق على خطة وطنية شاملة لإصلاح منظمة التحرير، تتضمن:
  • آليات تشكيل المجلس الوطني.
  • شروط الترشح والعضوية.
  • البرنامج السياسي المرجعي المشترك.
  • آليات إشراف وطنية نزيهة.
  1. ربط الانتخابات بمشروع وطني تحرري لا بإعادة إنتاج مؤسسات أوسلو
    ينبغي أن تكون الانتخابات أداة لإعادة بناء التمثيل الوطني، وليس أداة لإعادة شرعنة المرحلة السياسية السابقة، ويشترط لذلك توافق على برنامج كفاحي وطني، يتجاوز الاتفاقيات السياسية التي ثبت فشلها.
  2. تهيئة البيئة السياسية والميدانية أولًا
    لا يمكن إجراء انتخابات ذات مصداقية في ظل:
  • حرب الإبادة الجماعية على غزة.
  • تهويد القدس ومنع النشاط السياسي فيها.
  • الاعتقالات والتضييق في الضفة.
  • غياب خطة واضحة لضمان مشاركة الشتات.
    وعليه، يجب أولًا الضغط سياسيًا ودوليًا لتهيئة الشروط السياسية والقانونية والميدانية لأي انتخابات قادمة.
  1. تشكيل لجنة وطنية توافقية مستقلة
    إنشاء لجنة وطنية مؤقتة وواسعة التمثيل، توكل إليها مهمة وضع تصور شامل لآليات إعادة بناء المجلس الوطني، وتحديث سجل الناخبين، وضمان إشراف نزيه، وتوسيع مشاركة الفلسطينيين في الداخل والخارج.
  2. إعطاء الأولوية لمشروع إعادة بناء منظمة التحرير
    اعتبار إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل، باعتبارها المرجعية الجامعة لشعبنا في كل أماكن وجوده، وبما يضمن إنهاء التهميش السياسي للشتات، واستعادة المؤسسة دورها الكفاحي التحرري.
  3. التمسك بالقرار الوطني المستقل في مسألة الانتخابات
    رفض توظيف الانتخابات كأداة إقصاء سياسي أو إعادة هندسة قسرية للمشهد الفلسطيني بتنسيق إقليمي–دولي.

شارك:

المزيد من المقالات

“المقاطعة الاقتصادية للكيان الإسرائيلي في حرب غزة: أداة نضالية لتقويض الاحتلال ودعم القضية

تسلط هذه الورقة الضوء على المقاطعة الاقتصادية للكيان الإسرائيلي كأداة نضالية وأحد أبرز أدوات المقاومة الشعبية التي اكتسبت زخماً عالمياً غير مسبوق في ظل حرب الإبادة الجماعية المستمرة على قطاع غزة.