مقدمة
منذ الحرب على غزة التي اندلعت في أكتوبر 2023، مرورًا بالتصعيد العسكري مع حزب الله في جنوب لبنان، وانتهاءً بالمواجهة مع إيران في منتصف 2025، تعكف المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية على إعادة هندسة قواعد الاشتباك في المنطقة، ساعيةً إلى فرض نموذج جديد من الردع العسكري، يقوم على فكرة “التهدئة تحت النيران”.
هذا النموذج، الذي برز بشكل أوضح بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، يمنح الكيان الإسرائيلي ما يعتبره “حرية عمل مفتوحة” حتى في ظل غياب الحرب، مستندًا إلى غطاء سياسي ضمني من الحلفاء، وتراجع ردود الفعل الإقليمية والدولية.
وقد بدأ هذا التوجه يُعرف إعلاميًا واستراتيجيًا بـ”نموذج لبنان”، حيث واصل الكيان الإسرائيلي استهداف مواقع في الجنوب اللبناني بعد وقف إطلاق النار في فبراير 2025، دون رد فعلي مباشر من حزب الله، ما شجّع قادة الاحتلال على التفكير في تعميم النموذج على جبهات أخرى أكثر تعقيدًا، وفي مقدمتها قطاع غزة.
لكن محاولة إسقاط هذا النموذج على بيئات مختلفة تواجه تحديات ميدانية، وتنظيمية، وسياسية، قد تحوّله من “نجاح تكتيكي” إلى مأزق استراتيجي، خاصة إذا لم يستكمل الكيان الإسرائيلي الحرب بتحقيق أهدافها المعلنة، أو فشلت في فرض معادلة ردع حقيقية ومستقرة.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل ملامح نموذج الردع الإسرائيلي في لبنان، واستكشاف مدى إمكانية توسيع تطبيقه على غزة، من خلال تفكيك التصريحات الرسمية، وقراءة تقديرات مراكز البحث الإسرائيلية، واستعراض المواقف المتباينة داخل النخب الأمنية في تل أبيب، كما تسعى الورقة إلى تقييم مخاطر النموذج وحدوده البنيوية، واقتراح سيناريوهات واقعية وتوصيات عملية لصنّاع القرار الفلسطيني والدولي، في ضوء التحولات الجارية في قواعد الصراع.
أولًا: ملامح النموذج الإسرائيلي في لبنان
مع الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحة أن حكومته ستصادق على الاتفاق، لكنها “تحتفظ بحرية العمل العسكري الكامل في لبنان”، مؤكدًا أن “أي محاولة من حزب الله لإعادة ترميم قدراته العسكرية أو بنيته التحتية ستُواجَه برد قاسٍ ومفرط”، وأضاف خلال الجلسة الحكومية: “الاتفاق الجيد هو الذي نحتفظ فيه بحق الرد، وعدم انتظار الحزب حتى يستعيد قوته”.
هذا الموقف الرسمي شكّل الإطار المفاهيمي لما باتت تسميه الدوائر السياسية والعسكرية الإسرائيلية بـ”نموذج لبنان”، وهو مفهوم جديد في قواعد الاشتباك، يهدف إلى تجاوز منطق وقف إطلاق النار التقليدي الذي يقيد العمليات العسكرية بعد انتهاء القتال، وبموجب هذا النموذج، لم يعد الكيان الإسرائيلي يرى في التهدئة التزامًا ملزمًا، بل إطارًا مرنًا يسمح باستئناف الضربات العسكرية الوقائية أو العقابية في أي وقت.
ويتكوّن هذا النموذج من ثلاث ركائز رئيسية:
• الاحتفاظ بحرية العمل العسكري بعد وقف إطلاق النار، بما يشمل الغارات الجوية والضربات الدقيقة.
• تنفيذ ضربات استباقية ضد مواقع لحزب الله إذا رُصدت مؤشرات على نشاط عسكري أو محاولات لإعادة التسلح.
• إبقاء أربع مواقع عسكرية إسرائيلية في نقاط استراتيجية جنوب لبنان (قرب الحدود)، بعد انسحاب القوات البرية في 18 شباط/فبراير 2025، كأدوات رصد وتحكم وتثبيت ميداني للمعادلة الجديدة.
وقد بدأ الكيان الإسرائيلي فعليًا بتطبيق هذا النموذج بعد انسحابه البري، حيث شنّ في شهري آذار/مارس وحزيران/يونيو 2025 عشرات الغارات الجوية ضد أهداف في الجنوب اللبناني، بما في ذلك ما قالت إنها “مراكز مراقبة واستطلاع ونشاطات لوجستية” تابعة لحزب الله، واللافت أن هذه الهجمات لم تُقابل برد مباشر من الحزب، وهو ما فسّرته تل أبيب كدليل على نجاح النموذج في فرض قواعد اشتباك جديدة تصب في صالحها.
وعلى ضوء هذا الواقع، بدأت أوساط القرار في الكيان الإسرائيلي تتعامل مع “نموذج لبنان” بوصفه إنجازًا استراتيجيًا قابلاً للتكرار على جبهات أخرى، لا سيما في غزة، وربما لاحقًا في إيران، لتكريس ما يُعرف بـ”حق الرد المفتوح” أو “حرية العمل دون التزامات”، كخيار ردع طويل الأمد.
ثانيًا: محاولة إسقاط النموذج على غزة
مع بدء الحديث عن ترتيبات ما بعد الحرب في قطاع غزة، بدأت الدوائر العسكرية الإسرائيلية تطرح فكرة تعميم ما وصفته بـ”نموذج لبنان” ليشمل القطاع، بوصفه أداة لردع المقاومة الفلسطينية وضبط التهديدات من دون الحاجة لوجود بري دائم أو الدخول في اتفاقات تهدئة شاملة. وفي هذا السياق، كتب المحلل العسكري الإسرائيلي أمير بار شالوم في ورقة نشرها بتاريخ 25 فبراير 2025:
“لا توجد حلول سحرية في غزة، الخطر الحقيقي يتمثل في تآكل إنجازات الحرب بسرعة، لذلك يجب انتهاج النموذج اللبناني، لضمان عدم الاستيقاظ على 7 أكتوبر جديد”.
من منظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، يتيح هذا النموذج مواصلة تنفيذ ضربات جوية وعمليات خاصة – حتى بعد التوصل إلى وقف إطلاق نار – بحجة منع تعاظم القوة لدى الفصائل الفلسطينية، خاصة حركة حماس، وهو ما يعني تجاوز السياسات السابقة التي كانت تربط وقف النار بحالة من الهدوء المتبادل، وعودة لكيان الإسرائيلي إلى نمط “الرد الاستباقي” متى ما رأت ذلك ضروريًا.
ينبع هذا الطرح من قناعة إسرائيلية بأن استمرار الهدوء في غزة دون تدخلات عسكرية يسمح بإعادة بناء قدرات المقاومة، كما حدث خلال السنوات الماضية، وبالتالي، فإن نموذج لبنان يُقدم – من وجهة نظر إسرائيلية – كخيار واقعي لإبقاء الضغط قائمًا على القطاع حتى في ظل الهدنة.
لكن هذه الرؤية تصطدم بعقبات بنيوية، أشار إليها بار شالوم نفسه حين قال:
“طالما أن حماس لا تزال تحافظ على بنيتها التنظيمية، فإنها ستبقى الطرف الأقوى دائمًا، لا يمكن تطبيق نموذج لبنان في غزة ما دامت تلك البنية قائمة، لأنها تمنح الحركة القدرة على التعافي وإعادة التموضع”.
هذا التصريح يعكس إدراكًا لدى بعض النخب العسكرية الإسرائيلية بأن إسقاط النموذج اللبناني على غزة ليس مجرد قرار تكتيكي، بل يرتبط ببنية الواقع السياسي والعسكري في القطاع، حيث تختلف الظروف عن الساحة اللبنانية في عدة جوانب، أبرزها:
• سيطرة حماس الكاملة على القطاع، ما يمنحها هامشًا أكبر لإعادة بناء قوتها مقارنة بوضع حزب الله في لبنان.
• غياب سلطة فلسطينية منافسة داخل القطاع، يمكن أن تشكّل عنصرًا ضاغطًا على المقاومة كما هو الحال مع الحكومة اللبنانية تجاه حزب الله.
• البيئة السكانية الكثيفة والمتحركة، والتي تجعل من أي استهداف متكرر خطرًا على صورة الكيان الإسرائيلي الدولية.
كما أن التحرك الإسرائيلي في غزة بعد وقف إطلاق النار قد يواجه ردًا مباشرًا من المقاومة، بخلاف ما حدث في لبنان، ما يُعقّد عملية ترسيخ النموذج الردعي المفتوح.
ثالثًا: الموقف من المقارنة بين لبنان وغزة
رغم الترويج الإسرائيلي لنموذج لبنان كنموذج ناجح قابل للتكرار، فإن بعض الأصوات داخل مؤسسات التفكير الاستراتيجي الإسرائيلية، خاصة في معهد الأمن القومي، أبدت تحفّظها الشديد على محاولة تطبيق هذا النموذج على الساحة الغزّية.
ففي مقال نُشر بتاريخ 9 يوليو 2025، اعتبر الباحث البارز في المعهد، كوبي ميخائيل، أن المقارنة بين الجبهتين “خاطئة وتمس بأهداف الحرب ذاتها”، وجاء في مقاله:
“ما يحصل في لبنان يتم ضمن تفاهم غير معلن مع الولايات المتحدة، وتعتبر الحكومة اللبنانية إضعاف حزب الله مصلحة وطنية لها، ولذلك تغضّ الطرف عن الضربات الإسرائيلية، أو تتواطأ ضمنيًا معها، في المقابل، لا يوجد في غزة كيان سياسي معادٍ لحماس داخل القطاع يمكن أن يؤدي هذا الدور، ولا توجد سلطة فلسطينية فاعلة تعارض حماس رسميًا أو تقيّد تحرّكاتها”.
كما شدد على أن:
“الوضع في غزة يختلف جذريًا من حيث التكوين السياسي والديمغرافي، ولا توجد في القطاع دولة مضيفة أو غطاء سيادي يمكن لإسرائيل أن تنسّق معه، كما هو الحال في لبنان”.
تعكس هذه المقاربة واقعًا مختلفًا في البيئة السياسية لكل من لبنان وغزة، حيث يستند نموذج الردع المفتوح في لبنان إلى معادلة ثلاثية الأطراف: الكيان الإسرائيلي – حزب الله – الدولة اللبنانية، وهو ما يوفّر غطاءً سياسيًا، وإن كان غير مباشر، لاستمرار الغارات الإسرائيلية دون الدخول في حرب شاملة.
أما في غزة، فالمعادلة ثنائية مغلقة: الكيان الإسرائيلي مقابل فصائل المقاومة، دون وجود طرف ثالث يستطيع لعب دور “الوسيط القابل للتنسيق” أو الطرف الداخلي المتضرر من المقاومة، كما هي حال بعض القوى السياسية اللبنانية تجاه حزب الله.
وتشير هذه القراءة إلى إدراك داخل بعض المؤسسات الإسرائيلية بأن فرض نموذج لبنان في غزة دون تحقيق حسم عسكري كامل قد يُجهض أهداف الحرب الأصلية، ويكرّس معادلة ردع متبادل لا تضمن ما يتمنون الوصول إليه من تفكيك بنية حماس ولا القضاء على تهديداتها طويلة الأمد، وهو ما يجعل تبنّي النموذج دون تعديل، مغامرة سياسية وعسكرية قد تفضي إلى نتائج عكسية، أبرزها:
• تثبيت حكم حماس بدلًا من إسقاطه.
• شرعنة الغارات دون فاعلية ردعية حقيقية.
• تدويل الأزمة مع تصاعد التنديد الدولي بالضربات المتكررة تحت غطاء وقف إطلاق النار.
رابعًا: التحديات أمام تعميم النموذج على غزة
رغم السعي الإسرائيلي المحموم لفرض نموذج أمني مستنسخ من التجربة اللبنانية على قطاع غزة، إلا أن البيئة السياسية والميدانية في القطاع تفرض جملة من التحديات البنيوية التي تُضعف فرص نجاح هذا التوجّه وتجعله محفوفًا بالتحفظات، سواء داخل الدوائر الأمنية الإسرائيلية أو على مستوى التقدير الاستراتيجي الأوسع، ومن أبرز هذه التحديات:
- استمرار وجود أوراق ضغط بيد المقاومة، وفي مقدمتها ملف الأسرى الإسرائيليين
لا تزال الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، تحتفظ بأسرى وجثامين لجنود إسرائيليين منذ سنوات، وقد زادت أهمية هذا الملف في أعقاب حرب 2023–2024، حيث تؤكد التقديرات الإسرائيلية أن الحركة تحتفظ بعدد من الجنود والمستوطنين الأحياء، وهذا الملف يُعد عامل ردع مركزي يقيّد هامش المناورة الإسرائيلي، ويحول دون فرض نمط من الاستهداف غير المقيد دون التسبب في نسف جهود التفاوض والتبادل المحتملة. - بقاء البنية التحتية التنظيمية والعسكرية للفصائل الفلسطينية، رغم حجم الدمار
تشير المعطيات الميدانية إلى أن حماس والفصائل الأخرى، رغم الضربات الشديدة، لا تزال تحتفظ ببقايا شبكة تنظيمية قادرة على إعادة التشكّل، كما أن الطبيعة الجغرافية والاجتماعية لغزة تمنح هذه القوى قدرة عالية على الامتصاص وإعادة التموضع، ما يجعل الردع الإسرائيلي مؤقتًا ومشروطًا باستمرار العمليات، وليس دائمًا كما يُرجى من نموذج لبنان. - غياب سلطة بديلة متفق عليها لإدارة القطاع بعد الحرب
في الحالة اللبنانية، يسوّق الاحتلال وجود الدولة اللبنانية كغطاء شرعي لتبرير ضرباته ضد حزب الله، حتى وإن كان التنسيق غير معلن، أما في غزة، فلا توجد سلطة مدنية منافسة قادرة على الحلول مكان حماس أو استلام زمام الأمور، في ظل رفض داخلي واسع لعودة السلطة الفلسطينية، وغياب توافق دولي على ترتيبات ما بعد الحرب، ويضع هذا الغياب الاحتلال في مواجهة مباشرة مع كل مكونات المجتمع الغزي، ويجعل أي خرق أو استهداف عسكري قابلًا للتفجر. - تصاعد الضغوط الحقوقية والدولية جرّاء الاستهداف المستمر في ظل وقف إطلاق النار
على عكس الساحة اللبنانية حيث يكتنف الغموض بعض تفاصيل المواجهة، فإن قطاع غزة يخضع لمتابعة دولية مكثفة، وأي تكرار للضربات الجوية أو عمليات خاصة قد يواجه بردود فعل دولية متزايدة، خصوصًا في ظل تقارير متلاحقة من مؤسسات أممية ومنظمات حقوقية تؤكد وقوع جرائم حرب خلال الحرب الأخيرة، وهذا العامل قد يحد من فعالية نموذج الردع المفتوح، بل قد يرتد سلبًا على صورة الكيان الإسرائيلي وموقفه السياسي في المحافل الدولية.
كل هذه العوامل تجعل من قطاع غزة ساحة معقدة يصعب نسخ النموذج اللبناني عليها حرفيًا، دون معالجة عميقة للملفات السياسية والأمنية العالقة، وعلى رأسها مصير الأسرى، وترتيبات ما بعد الحرب، وطبيعة السلطة الحاكمة، ودور الفصائل في معادلة الأمن الإقليمي، وبالتالي، فإن أي محاولة لتطبيق النموذج دون هذه المعالجات قد تُنتج وضعًا هجينًا: لا هو تهدئة مستقرة، ولا هو حسم عسكري ناجز، بل ساحة مفتوحة على احتمالات التفجر الدائم.
خامسًا: السيناريوهات المحتملة لتوسيع نموذج لبنان على غزة
في ضوء التجاذبات الإسرائيلية الداخلية، والوقائع الميدانية في قطاع غزة، والمواقف الدولية المتشكّلة بعد إنجاز اتفاق لوقف إطلاق النار، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة بخصوص مدى قدرة الاحتلال الإسرائيلي على تطبيق نموذج “الردع المفتوح” المستند إلى تجربة لبنان على الساحة الغزية:
السيناريو الأول: نجاح الكيان الإسرائيلي في فرض نموذج لبنان على غزة (نموذج الردع المفتوح)
يقوم هذا السيناريو على فرضية أن الكيان الإسرائيلي سيتمكن – بعد التوصل إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد – من الاحتفاظ بحرية الضربات الجوية والعمليات الخاصة داخل قطاع غزة، بذريعة منع تعاظم القوة لدى حماس أو الفصائل الأخرى، وبمباركة أميركية صامتة، على غرار ما يجري في لبنان.
شواهد داعمة:
• تصريحات نتنياهو ووزير الأمن تشير إلى أن حكومة الاحتلال لن تلتزم بوقف إطلاق نار يمنعها من الرد أو تنفيذ عمليات داخل القطاع.
• الدعم الأميركي الواسع خلال الحرب على غزة وإيران قد ينعكس لاحقًا على شكل تفاهمات أمنية غير معلنة تُجيز حرية العمل العسكري.
• ضعف قدرة المجتمع الدولي على فرض إجراءات رادعة ضد الكيان الإسرائيلي بعد أكثر من 9 أشهر من الحرب، رغم حجم الضحايا والدمار.
المعيقات:
• استمرار حيازة حماس لأوراق ضغط مهمة، خاصة ملف الأسرى.
• عدم وجود كيان فلسطيني بديل في غزة تتعامل معه حكومة الاحتلال.
• احتمالية تصاعد الفعل المقاوم ردًّا على خروقات متكررة، ما يعيد إشعال المواجهة.
الاحتمالية: متوسطة – محفوفة بمخاطر الانفجار إذا لم تُستكمل ترتيبات ما بعد الحرب داخليًا ودوليًا.
السيناريو الثاني: فشل النموذج في غزة وتحول القطاع إلى ساحة ردع متبادل
وفق هذا السيناريو، تفشل حكومة الاحتلال في فرض النموذج اللبناني على غزة بسبب استمرار حضور حماس والفصائل، وفشل جهود إعادة الإعمار والسيطرة الأمنية، مما يؤدي إلى تثبيت معادلة ردع متبادل غير مكتوب: التزام مقابل التزام، وخرق مقابل رد، دون قدرة الكيان الإسرائيلي على توجيه ضربات متكررة دون تبعات.
شواهد داعمة:
• التحذيرات الإسرائيلية نفسها من صعوبة تطبيق النموذج على غزة (بار شالوم، كوبي ميخائيل).
• قدرة حماس على الصمود التنظيمي واحتفاظها بخلايا نشطة بعد الحرب، رغم الضربات.
• فشل النموذج ذاته في الضفة الغربية، حيث لم تمنع حرية العمل الإسرائيلي من تصاعد المقاومة المسلحة.
التداعيات:
• بقاء الكيان الإسرائيلي في حالة تأهّب دائم.
• استمرار عمليات إعادة التسلّح من تحت الأرض.
• فشل في تحقيق هدف الحرب الرئيسي وهو “إسقاط سلطة حماس وتقويض بنيتها العسكرية”.
الاحتمالية: مرتفعة – ما لم يتم الحسم الكامل ميدانيًا والسياسيًا في اليوم التالي للتهدئة.
السيناريو الثالث: تسوية مؤقتة تُراعي التوازنات وتؤجل حسم النموذج
يرجّح هذا السيناريو الوصول إلى صيغة تهدئة محددة زمنيًا (60 يومًا كما في الاتفاقات الجارية)، تتبعها مفاوضات على ترتيبات أمنية جديدة، لا تصل إلى حد فرض نموذج لبنان، لكنها تتيح للكيان الإسرائيلي هامشًا ضيقًا من المناورة العسكرية بضمانات أميركية.
في المقابل، تحتفظ المقاومة بأوراق ردع محدودة (مثل ملف الأسرى)، مع وجود ترتيبات أممية أو عربية محدودة على الأرض.
شواهد داعمة:
• وجود مقترحات مطروحة حاليًا تتحدث عن تهدئة تدريجية، تبدأ بوقف إطلاق النار المؤقت وتنتقل إلى ترتيبات أمنية مرحلية.
• دخول أطراف وسيطة مثل مصر وقطر والولايات المتحدة بثقلها لضمان ضبط السلوك الإسرائيلي بعد التهدئة.
• الضغط الأميركي على حكومة نتنياهو لتفادي إعادة التصعيد، خاصة في ظل سعي الولايات المتحدة لتهدئة الساحة في الشرق الأوسط لتمكينها من تحقيق مصالحها في المنطقة.
الاحتمالية:الاحتمالية: مرتفعة – وهو السيناريو الأقرب في المدى القريب بالنظر إلى هشاشة المشهد السياسي والميداني، وإدراك حكومة الاحتلال لصعوبة الحسم الكامل في غزة.
السيناريو الراجح:
رغم رغبة حكومة الاحتلال في تعميم نموذج لبنان، إلا أن السيناريو الأكثر ترجيحًا في هذه المرحلة هو الوصول إلى تسوية مؤقتة مشروطة، تُبقي غزة ساحة غير مستقرة، دون قدرة الكيان الإسرائيلي على فرض نموذج ردع مفتوح بالكامل، ما لم تُستكمل ترتيبات إقليمية ودولية واضحة بشأن مستقبل الحكم في القطاع، ومصير المقاومة، وضمانات التهدئة طويلة الأمد.
سادسًا: الخلاصة
يكشف السعي الإسرائيلي لتوسيع “نموذج لبنان” على جبة غزة عن تحوّل نوعي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية بعد حرب 2023–2025، قوامه “الردع المتحرّك” الذي لا يتقيد بحدود زمنية أو تفاهمات رسمية، بل يسعى إلى تكريس حرية العمل العسكري كحق دائم يُمارس تحت مظلة وقف إطلاق النار، ولا يُعبّر هذا التحوّل فقط عن رغبة إسرائيلية في تجاوز إخفاقات الحرب عبر هندسة بيئة اشتباك جديدة، بل يكشف عن إدراك داخلي متزايد بصعوبة الحسم الكامل في مواجهة خصوم عقائديين يمتلكون عمقًا تنظيميًا ومجتمعيًا متجذرًا.
ومع أن نموذج لبنان وفّر للكيان الإسرائيلي حتى الآن هامشًا من الردع الجوي والضغط النفسي على حزب الله، إلا أن إسقاط هذا النموذج على غزة يواجه تحديات ميدانية وهيكلية معقّدة، ففي غزة، تصطدم الرغبة في الردع المستدام بواقع الفصائل التي لم تُستأصل بنيتها، ولا تزال تمتلك أدوات المناورة والرد، فضلًا عن غياب سلطة بديلة تحقّق للكيان الغطاء السياسي الذي استفاد منه في الساحة اللبنانية.
وعليه، فإن الحديث الإسرائيلي عن “توسيع النموذج” يُعبّر عن أمنيات استراتيجية أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ، ما لم يُستكمل بإعادة تعريف للبيئة السياسية والأمنية في غزة، وتفاهمات إقليمية واضحة تتجاوز إدارة ما بعد الحرب، نحو إعادة تشكيل موازين القوى على الأرض، وبغياب ذلك، فإن أي تطبيق قسري للنموذج قد يؤدي إلى تثبيت حالة اشتباك مزمنة لا هي حرب ولا هي تهدئة، تُبقي المنطقة في حالة غليان دائم، دون إنجاز سياسي حاسم، ولا أمن مستقر.
سابعًا: التوصيات
في ضوء المساعي الإسرائيلية لتوسيع نموذج “الردع المفتوح” على غرار تجربة لبنان، ومع إدراك التحديات البنيوية لهذا النموذج في غزة، تُوصى الأطراف الفلسطينية والعربية والداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني بالتالي:
- التمسك بوحدة القرار الميداني والسياسي للمقاومة، وتعزيز التنسيق بين الفصائل، وعدم الانجرار إلى ترتيبات جزئية أو تفاهمات هشّة تسمح للاحتلال بفرض معادلة استنزاف عسكرية تحت غطاء وقف إطلاق النار.
- الحفاظ على أوراق القوة وفي مقدمتها ملف الأسرى، وإدارة هذا الملف بمسؤولية وطنية عالية، ومنع التفريط به تحت أي ضغط، كونه يُمثّل ضمانة ردعية تحول دون تحرّك الاحتلال بحرية بعد التهدئة.
- رفض أي صيغة “هدنة غير متوازنة” تتيح للاحتلال حرية الضرب دون مقابل، واشتراط أي اتفاق لوقف إطلاق نار طويل الأمد بضمانات ملزمة، تمنع الاحتلال من تنفيذ ضربات استباقية تحت ذرائع أمنية، كما تحاول أن تفعل في لبنان.
- فضح النموذج الإسرائيلي دوليًا كإطار لشرعنة العدوان المتكرر، وتوثيق وتحليل هذا التوجه الجديد وطرحه في المحافل الدولية، باعتباره محاولة إسرائيلية لتكريس حالة حرب دائمة ومقننة على الفلسطينيين، حتى في ظل غياب الأعمال العدائية من طرفهم.
- تعزيز الحضور الدولي الحقوقي في غزة ما بعد الحرب، والسعي لتوسيع وجود الجهات الدولية (الحقوقية والإعلامية والطبية) لرصد وتوثيق أي خرق إسرائيلي محتمل، وتشكيل جدار حماية شعبي وسياسي ضد محاولات تطبيق نموذج الردع المفتوح.
- الضغط على الأطراف الدولية لعدم تكرار تجربة “التواطؤ الصامت” كما في لبنان، والتأكيد على أن صمت المجتمع الدولي على نموذج لبنان يجب ألا يُعاد إنتاجه في غزة، وأن أي تفاهمات غير معلنة بين حكومة الاحتلال والولايات المتحدة يجب أن تخضع لرقابة قانونية وسياسية.
- التعامل مع وقف إطلاق النار كمرحلة انتقالية يجب إدارتها بذكاء ومرونة، والتخطيط للمرحلة الانتقالية في غزة بعقلية استراتيجية، تجمع بين تثبيت عناصر القوة الميدانية، والاستثمار السياسي والدبلوماسي الذكي، دون الوقوع في فخ إدارة ما بعد الحرب بمنطق رد الفعل.
- بناء خطاب إعلامي فلسطيني موحّد يعرّي النموذج الإسرائيلي ويفكك سرديته، والتركيز على خطورة محاولة حكومة الاحتلال شرعنة “الضربات المفتوحة” بعد وقف إطلاق النار، وتصويرها كـ”حق مشروع”.