تحليل استراتيجي
المركز الفلسطيني للدراسات السياسية
المقدمة
يشهد الشرق الأوسط منذ عقود سلسلة من الأزمات الممتدة، حيث تتقاطع الأبعاد العسكرية والسياسية والدبلوماسية مع الأبعاد الإنسانية والاجتماعية، وتظل القضية الفلسطينية في قلب هذه التوترات، باعتبارها البوصلة التي تعيد تشكيل أولويات المنطقة وتوازناتها، وتختبر قدرة الدول الإقليمية والدولية على التحرك والتوافق.
غير أن جريمة قصف الاحتلال الإسرائيلي لدولة قطر، ومحاولة اغتيال قادة حركة حماس مثلت نقطة تحوّل نوعية، فقد كسرت الخطوط الحمراء التقليدية، ووسّعت دائرة الصراع خارج حدود غزة نحو الخليج، مستهدفة ليس فقط موقعًا جغرافيًا، بل دور قطر السياسي كوسيط محوري في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي وداعم للجهود الإنسانية.
في ضوء هذه التطورات، انعقدت قمة الدوحة الطارئة لتكون منصة عربية–إسلامية لمواجهة هذا الاعتداء، وتقييم تداعياته على الأمن الإقليمي، وتحريك مواقف الدول تجاه القضية الفلسطينية، ومن هنا، تهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل شامل للتحولات الإقليمية الناتجة عن القمة، من خلال:
- رصد مواقف الفاعلين الرئيسيين على المستويين العربي والإسلامي والدولي.
- تقييم انعكاس الاستهداف على التوازنات والتحالفات الإقليمية.
- استشراف الخيارات المستقبلية المتاحة أمام قطر والدول العربية والفلسطينيين، مع تقديم توصيات عملية لصانعي القرار.
أولًا: السياق الاستراتيجي للهجوم على قطر
- توسيع ساحة الصراع
شكّل قصف الاحتلال لقطر نقطة تحوّل جوهرية في قواعد الاشتباك الإقليمية، فللمرة الأولى يتم استهداف دولة خليجية ذات سيادة خارج نطاق مسرح العمليات التقليدي (غزة ولبنان وسوريا واليمن)، وهذا التحول يعني أن الكيان الإسرائيلي انتقل من استراتيجية “الردع المحدود داخل الساحة الفلسطينية” إلى ما يمكن تسميته بـ”الردع العابر للحدود”، في محاولة لتصدير أزماته الأمنية نحو المجال الإقليمي الأوسع.
- تاريخيًا، لم يكن الخليج في دائرة الاستهداف المباشر، بل ظل في إطار “الحروب الباردة” والضغوط السياسية، لذا فإن الضربة ضد قطر كسرت قاعدة تقليدية حافظت لعقود على أن منطقة الخليج خط أحمر نسبيًا.
- من الناحية العسكرية، يُقرأ هذا التوسّع كجزء من محاولة الاحتلال إظهار قدرته على الوصول إلى أي مكان، وتجاوز قيود الجغرافيا الفلسطينية، لكنه في المقابل يكشف أيضًا فقدان السيطرة على ساحات المواجهة داخل غزة، واللجوء إلى “تصعيد خارجي” لخلط الأوراق.
2. رسالة سياسية مزدوجة
لم يكن اختيار قطر صدفة، فالدوحة تمثل منذ سنوات العقدة المركزية في جهود الوساطة بين المقاومة الفلسطينية من جهة، والكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة من جهة أخرى، وحمل استهدافها رسائل مزدوجة:
- مباشرة لقطر: الضغط عليها للتراجع عن دورها في الوساطة والتمويل الإنساني لغزة، ومحاولة ثنيها عن توفير “شبكة أمان سياسية وإنسانية” للمقاومة.
- غير مباشرة لدول أخرى: لا سيما تركيا والجزائر وبعض الدول الخليجية، بأن أي انخراط داعم للمقاومة أو متعارض مع الرواية الإسرائيلية سيُواجَه بردع عسكري أو استخباراتي.
- بهذا المعنى، يصبح الهجوم على قطر إعادة رسم لخطوط التحذير الإسرائيلية: من منع السلاح إلى منع الوساطة والدعم السياسي.
- تداعيات على أمن الخليج
أعاد القصف إلى الواجهة مسألة الهشاشة الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي.
- إذا كان الكيان الإسرائيلي قد تمكن من ضرب أهداف في قطر، فإن ذلك يعني إمكانية تكرار السيناريو في دول خليجية أخرى بحجة “ملاحقة خطوط الإمداد أو التمويل”.
- يثير ذلك تساؤلات حول فاعلية منظومات الدفاع الخليجية، ومدى قدرة مجلس التعاون على صياغة عقيدة أمنية مشتركة في مواجهة تهديدات إسرائيلية، بعد أن كان التهديد يُختزل في إيران.
- على المدى الاستراتيجي، قد يدفع هذا الحدث بعض الدول الخليجية نحو أحد خيارين: تعزيز الشراكة الأمنية مع واشنطن والكيان الإسرائيلي كخيار وقائي، أو الانخراط في ترتيبات أمنية إسلامية وإقليمية بديلة مع تركيا وإيران وقطر.
- ضغط شعبي عربي وإسلامي
جاءت الضربة في ذروة الغضب الشعبي من جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.
- الشارع العربي والإسلامي نظر إلى استهداف قطر على أنه توسّع خطير في العدوان، ما عزز المطالبات باتخاذ مواقف أكثر صرامة، مثل قطع العلاقات، أو تفعيل المقاطعة الاقتصادية، أو حتى الدفع نحو تشكيل تحالف ردعي.
- من منظور الاحتلال، كان الرهان أن يتعامل الشارع مع الحدث كـ”حادثة عابرة”، لكن النتائج جاءت معاكسة، إذ تعززت صورة الكيان الإسرائيلي كتهديد للأمن العربي الجماعي، ولم تعد مجرد طرف في نزاع مع الفلسطينيين.
- هذا الضغط الشعبي يضع الحكومات العربية أمام معادلة صعبة: إما التجاوب مع نبض الشارع، أو المخاطرة بفقدان الشرعية السياسية أمام شعوبها.
ثانيًا: مواقف الفاعلين الرئيسيين
- الموقف القطري
أظهر الأمير تميم بن حمد تمسّكًا بدور بلاده المحوري في الملف الفلسطيني، معتبرًا الاستهداف الإسرائيلي “عدوانًا سافرًا يمسّ السيادة الوطنية ويهدد الأمن الإقليمي”، وقد انعكس الموقف القطري في عدة مسارات:
- الإصرار على الوساطة: أكدت الدوحة أن الاعتداء لن يدفعها للتراجع عن دورها في المفاوضات أو تخفيف الضغط الإنساني عن غزة، ما منحها رصيدًا إضافيًا من المصداقية.
- تدويل القضية: سارعت قطر إلى تحريك الملف على مستوى الأمم المتحدة، والمطالبة بتحقيق دولي مستقل، فضلًا عن اتصالات مكثفة مع المحكمة الجنائية الدولية لإدراج الهجوم ضمن جرائم الحرب.
- تعزيز الشراكات الإقليمية: برز انفتاح أكبر على تركيا وإيران كخيار استراتيجي لموازنة الضغط الإسرائيلي–الأميركي، دون التفريط بعلاقاتها مع واشنطن.
هذا الموقف رسّخ صورة قطر كـ”دولة صغيرة لكنها فاعلة” قادرة على المناورة وحشد الدعم السياسي والدبلوماسي.
- الموقف المصري والسعودي: بين التضامن والحذر
- مصر: اكتفت بتأكيد تضامنها مع قطر، لكنها ركزت على وقف إطلاق النار وحماية حدودها مع غزة باعتبارهما أولوية للأمن القومي المباشر، وهذا يعكس رغبة القاهرة في تفادي التصعيد خارج مسرحها المباشر مع الحفاظ على أوراق الضغط المرتبطة بالملف الفلسطيني.
- السعودية: قدّمت دعمًا سياسيًا واضحًا لقطر وأبرزت البعد الخليجي المشترك، لكنها فضّلت التزام الحذر الاستراتيجي، لتجنّب أي صدام مباشر قد يؤثر على شراكاتها مع الولايات المتحدة أو مسار التطبيع غير المعلن مع الكيان الإسرائيلي.
يبرز هنا تمايز مهم: في حين تضامنت القاهرة والرياض سياسيًا، إلا أنهما أبقتا الباب مفتوحًا أمام توازن العلاقات مع واشنطن، ما أضعف إمكانية تشكّل موقف عربي موحد في مواجهة الاعتداء.
- الموقف التركي–الإيراني: تصعيد بلغة “الخط الأحمر“
- تركيا: وصفت العملية بأنها “تجاوز للخطوط الحمراء“، ودعت إلى بناء تحالف إسلامي رادع، في محاولة لترسيخ موقعها القيادي في قضايا الإقليم وربط أمن الخليج مباشرة بأمن غزة.
- إيران: ذهبت أبعد من ذلك بربط استهداف قطر باعتباره استهدافًا للأمة الإسلامية كلها، مؤكدة دعمها المفتوح للمقاومة الفلسطينية، ومستخدمة الحدث لتوسيع دائرة نفوذها في الخليج.
هذا المحور قدّم نفسه كـ”حامي المقاومة”، لكنّه في الوقت ذاته عكس تصاعد التنافس التركي–الإيراني على زعامة الموقف الإقليمي، ما يفتح الباب لاحقًا أمام تباينات تكتيكية رغم وحدة الخطاب المعلن. - المواقف الدولية
- الولايات المتحدة: اكتفت ببيانات أسف ودعوات لضبط النفس، وهو ما فُسر على نطاق واسع كضوء أخضر ضمني للكيان الإسرائيلي، خاصة أن واشنطن لم تلوّح بأي إجراءات عقابية.
- الاتحاد الأوروبي: ركّز على الجوانب الإنسانية وإرسال المساعدات، متجنبًا أي ضغط سياسي فعلي على الكيان الإسرائيلي، ما كشف محدودية دوره الاستراتيجي.
- روسيا والصين: استغلتا الحادثة لتأكيد فشل النظام الدولي القائم على “ازدواجية المعايير”، مع الدعوة إلى حوار أمني إقليمي يشمل جميع الأطراف، كلاهما سعى إلى تقديم نفسه كبديل أخلاقي–سياسي للغرب، مع تعزيز الحضور في الخليج عبر البوابة القطرية.
ثالثًا: التحولات الإقليمية بعد قمة الدوحة
- إعادة الاعتبار لأمن الخليج كملف فلسطيني–إسرائيلي
للمرة الأولى، انتقل الصراع من حيزه التقليدي في غزة والضفة إلى المجال الخليجي، بعد أن تعرضت قطر لاستهداف مباشر، وأعاد هذا التطور تعريف المعادلة الأمنية في المنطقة: لم يعد الأمر مقتصرًا على “أمن حدود فلسطين” بل أصبح مرتبطًا بأمن الخليج ككل.
هذا التحول يعني أن أي تصعيد إسرائيلي مقبل قد لا يُقاس فقط بمدى تأثيره على غزة، بل أيضًا بمدى قدرته على زعزعة استقرار دول الخليج، وهو ما يطرح تحديات جديدة على مجلس التعاون الخليجي وعلى ترتيبات الأمن الإقليمي.
- تعزيز مكانة قطر
على عكس ما سعى إليه الاحتلال من إضعاف دور الدوحة، جاء الاستهداف ليمنحها مزيدًا من الشرعية والوزن السياسي:
- تضاعف التضامن العربي والإسلامي معها، باعتبارها “دولة مستهدفة بسبب التزامها بدعم غزة”.
- رسّخ ذلك صورتها كـ”وسيط نزيه” يصعب تجاوزه، سواء في المفاوضات أو في الدعم الإنساني.
- عززت هذه المكانة قدرتها على التحرك بين المحاور المختلفة (الغربي، التركي–الإيراني، العربي التقليدي)، ما جعلها لاعبًا لا غنى عنه في أي تسوية مقبلة.
- التباينات داخل الصف العربي
القمة وما تلاها كشفت مجددًا عن غياب الموقف العربي الموحد، وظهور ثلاثة محاور رئيسية:
- محور “التضامن الحذر” (مصر–السعودية): ركّز على إدارة الأزمة دون الانخراط في مواجهات مباشرة، حفاظًا على توازن علاقاته مع الولايات المتحدة.
- محور “التصعيد” (تركيا–إيران–الجزائر): دعا إلى خطوات عملية ضد الكيان الإسرائيلي، بما في ذلك تحركات دبلوماسية ضاغطة، وتلويح بخيارات اقتصادية–سياسية أوسع.
- محور “الوساطة” (المغرب–الأردن): تمسك بخطاب التهدئة والدبلوماسية، لتفادي الانجرار إلى استقطابات حادة، مع الحفاظ على صورة “الوسيط المقبول” لدى الغرب.
هذا التمايز يعكس استمرار التباين البنيوي في الرؤى العربية: بين من يرى أن الصراع يجب احتواؤه حفاظًا على الاستقرار الداخلي، وبين من يسعى إلى استثماره لتعزيز موقعه الإقليمي.
- صعود الرأي العام الشعبي
الهجوم على قطر تزامن مع مشاهد المجازر المستمرة في غزة، ما أعاد تنشيط الرأي العام العربي والإسلامي:
- عادت مطالبات مقاطعة الكيان الإسرائيلي وتجريم التطبيع إلى الواجهة، مع اتساع رقعة الحملات الشعبية في الشارع وعلى وسائل التواصل.
- اتسع الهوة بين الحكومات المترددة والجماهير الغاضبة، وهو ما قد يشكل ضغطًا متزايدًا على الأنظمة لإعادة النظر في مواقفها الرسمية.
- تأزيم صورة الكيان الإسرائيلي إقليميًا
بدلًا من إضعاف الوساطة القطرية، أظهر الاعتداء حدود استراتيجية الردع الاستباقي التي يعتمدها الكيان الإسرائيلي:
- لم يحقق الردع، بل وحّد أطرافًا عربية وإسلامية ضدها.
- زاد من ارتباك حلفائه الخليجيين الذين باتوا يواجهون صعوبة في تبرير الشراكة معه أمام الرأي العام.
- عزز الخطاب الإقليمي والدولي الذي يصف الكيان الإسرائيلي بأنه عامل فوضى وزعزعة استقرار، وليس “دولة ردع”.
رابعًا: الخيارات المتاحة أمام قطر
المسار الأوّل — المسار الدولي (تدويل القضية)
الهدف الاستراتيجي: تحويل الاعتداء إلى قضية قانونية ودبلوماسية دولية تضع الكيان الإسرائيلي أمام محاكمة سياسية وقانونية وتحصّن قطر بدعم قانوني وسياسي دولي.
خطوات عملية:
- تقديم شكاوى رسمية إلى مجلس الأمن، الجمعية العامة، والأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة.
- التعاون الوثيق مع مكتب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لتجميع الأدلة (وثائق استخباراتية، شهادات، صور أقمار، تقارير طبية).
- بناء تحالف دبلوماسي (مجموعات دولية وإقليمية، دول عدم الانحياز، دول آسيوية وأفريقية مؤثرة) للحصول على قرارات داعمة في المحافل الدولية.
- استخدام القنوات القضائية الوطنية في دول ثالثة (مبدأ الولاية القضائية العالمية) لملاحقة مرتكبي الانتهاكات إذا تيسّر.
الفوائد: يعزّز شرعية قطر ويضع ضغطًا سياسيًا مستمرًا على الكيان الإسرائيلي، ويُقلّل من قبول المجتمع الدولي لأعمال انتهاك السيادة.
المخاطر والقيود: مطلب قوي من حيث الدبلوماسية والوقت؛ قد تواجه قطر في المقابل ضغوطًا دبلوماسية من حلفاء لإيقاف خطوات تصعيدية، أيضاً، نتائج الإجراءات القضائية قد تستغرق سنوات.
مؤشرات النجاح: قرار مجلس حقوقي/أممي لتشكيل تحقيق؛ إشعار رسمي من مكتب المدعي العام بفتح تحقيق؛ قرارات دولية تفرض عزلًا سياسيًا أو عقوبات رمزية.
المسار الثاني — المسار العربي–الإسلامي (بناء تحالف إقليمي عملي)
الهدف الاستراتيجي: تأسيس جبهة عربية–إسلامية موحدة قادرة على اتّخاذ خطوات عملية (دبلوماسية، اقتصادية، أمنية) للردع والحماية الجماعية.
خطوات عملية:
- تفعيل آليات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي لقرار مشترك يُلزم الدول الأعضاء بإجراءات مشتركة (بيانات مشتركة، مقاطعات جزئية، عقوبات دبلوماسية مؤقتة).
- تشكيل لجنة تنسيق إقليمية دائمة (سياسية–قانونية–إعلامية) تضم دولًا فاعلة (مصر، السعودية، تركيا، الجزائر، الأردن، باكستان، إندونيسيا) للعمل على جدول زمني للخطوات.
- السعي إلى تفعيل آلية دفاع خليجية مشتركة أو توسيعها لمظلة عربية–إسلامية أوسع مع ترتيبات دعم لوجستي وتقني لقطر.
- تقديم حوافز للتعاون (مساعدات، تعاون اقتصادي، اتفاقيات أمنية) لدول مترددة لإقناعها بالانضمام.
الفوائد: يمنح قطر غطاءً إقليمياً واسعًا، ويخلق ضغطًا سياسياً متضافرًا يجعل إعادة الاستهداف أكثر تكلفة للكيان الإسرائيلي، كما يردع اختراقات مستقبلية ويقلّل عزلة المحور العربي.
المخاطر والقيود: اختلاف الأولويات بين الدول، وحسابات علاقات بعض الدول مع واشنطن والكيان الإسرائيلي قد تحدّ من عمق الإجراءات، وقد يبقى القرار رمزيًا إن لم يُترجم إلى آليات تنفيذية واضحة.
مؤشرات النجاح: إعلان آلية رصد/تحرك عربية–إسلامية دائمة؛ اتفاق على إجراءات ملموسة (تجميد تعاون أمني معين مع الكيان الإسرائيلي أو فرض قيود دبلوماسية).
المسار الثالث — المسار الإعلامي (كسب الرأي العام العالمي والداخلي)
الهدف الاستراتيجي: تحويل التعاطف الشعبي إلى ضغط سياسي دولي وداخلي يدعم خطوات قطر القانونية والدبلوماسية، ويقوّي سردية الدوحة كحامية للسلام والوساطة.
خطوات عملية:
- حملة إعلامية دولية منسقة: ملفات موثقة (فيديو، شهادات، خرائط زمنية)، تعاون مع منظمات حقوقية دولية لنشر تقارير موجزة ومترجمة للغات رئيسية.
- توظيف أدوات الدبلوماسية العامة (public diplomacy): جولات إيضاحية لوزير الخارجية القطري ومبعوثين في عواصم مؤثرة، استضافة مؤتمرات صحفية ومؤتمرات خبراء.
- شراكات مع منصات إعلامية دولية ووسائل التواصل لرفع مستوى الانتباه، واستهداف صانعي الرأي في الغرب وآسيا وأفريقيا.
- برامج دعم للمجتمع المدني في الدول العربية لتنسيق حملات مقاطعة أو ضغط اقتصادي سياسي مدروس.
الفوائد: يزيد من كلفة التحرك العدائي المستقبلي ضد قطر ويُحشد دعمًا شعبيًا يضغط على حكوماتها. كما يعيد تشكيل الخطاب الدولي لصالح المطالبة بمساءلة.
المخاطر والقيود: حملات إعلامية مكثفة قد تستدعي رد فعل مضاد في الإعلام المؤيّد للكيان الإسرائيلي؛ خطر الاستنزاف الإعلامي إن لم تُنسّق الرسائل بدقة.
مؤشرات النجاح: تزايد التغطية الدولية الداعمة، مقالات رأي في صحف مؤثرة، حملات توقيع/مقاطعة تحصل على معدلات انتشار عالية.
المسار الرابع — المسار الأمني–الردعي (تعزيز منظومة الدفاع واشتراطات الردع)
الهدف الاستراتيجي: رفع كلفة أي استهداف مستقبلي عبر تحصين قطر من الناحية الدفاعية وتأسيس آليات ردع إقليمية مشتركة.
خطوات عملية:
- مراجعة سريعة ومكثفة لمنظومات الاستخبارات والمراقبة الجوية القطرية مع حلفاء تقنيين (رادارات، دفاع جوي قصير ومتوسط المدى، أنظمة إنذار مبكر).
- تسريع تفعيل بنود آليات الدفاع المشترك الخليجي (أو التفاوض على توسيعها) وتنسيق اتصالات طوارئ عسكرية مع مصر والسعودية وتركيا.
- وضع “قواعد اشتباك” دبلوماسية واضحة (red lines) تُعلنها الدوحة مسبقًا — وما يترتب على كل خرق (عقوبات، إغلاق للمجالات الجوية، إجراءات تجارية).
- تطوير قابليات سيبر–استخبارية للتعرّف المسبق على مخاطر استهداف وإضرار شبكات دعم عملياتية.
الفوائد: يقلّل فرص الحوادث المتكررة ويمنح قطر هامش أمان أكبر للمواصلة بوساطتها، مع ردة فعل دفاعية سريعة حال المخاطر. (
المخاطر والقيود: تصعيد عسكري محتمل في حال الإعلان عن قواعد اشتباك صارمة؛ تكلفة مالية ولوجستية عالية؛ والحاجة لتوافق إقليمي حول قواعد مشتركة.
مؤشرات النجاح: تحسين مؤشرات جاهزية الدفاع الجوي والاستخباراتي، اتفاقيات دفاع مشترك موقعّة، تجارب مشتركة ناجحة أو تفعيل منصات اتصال طارئة.
النهج الأكثر واقعية وفعالية لقطر هو مزيج متزامن من المسارات: تدويل قضائي مدعوم بدبلوماسية إعلامية فعّالة، مع بناء تحالف إقليمي عملي وتحصين أمني تدريجي، والتركيز على خطوة متوازنة يُقلّل من مخاطر التصعيد غير المرغوب ويزيد من فرص تحويل التضامن إلى مواقف ملموسة ونتائج قانونية وسياسية.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية
- السيناريو الأول — التصعيد الإقليمي
الوصف: احتمال تكرار استهداف منشآت أو شخصيات في دول عربية أو توسيع العمليات إلى ساحات إقليمية أخرى (لبنان، تركيا، أو قاعدة عمليات بحرية وخطوط إمداد).
المحركات:
- اعتقاد الطرف المعتدي بأن الردع الداخلي لم يعد كافياً.
- رغبة في تدمير أو تحجيم شبكات الدعم والوساطة.
- إحساس بانعدام تكلفة فعلية نتيجة غياب عقوبات فاعلة.
مؤشرات مبكرة:
- رصد عمليات استخباراتية أو خروقات جوية في أجواء دول خليجية أخرى.
- تحذيرات دبلوماسية متكررة من أنقرة أو بيروت.
- ارتفاع منسوب الخطاب العدائي الرسمي والمتطرف في تل أبيب.
الآثار الإقليمية:
- سباق تسليحي وتسريع تحالفات أمنية مضادة.
- احتمال ردود انتقامية غير مباشرة من فصائل مسلحة في ساحات متعددة.
- هزة اقتصادية واستنزاف للموارد الأمنية في دول الخليج.
- السيناريو الثاني — التدويل المكثف (نجاح قطر في المسار الدولي)
الوصف: قطر تنجح في تحويل الحادثة إلى ملف دولي مركز في مجلس الأمن والمحكمة الجنائية، مع قرارات استنكار وربما تدابير رمزية على مراحل.
المحركات:
- قدرة قطر على تقديم أدلة موثوقة ومترابطة (وثائق، شهود، صور فضائية).
- تعبئة دبلوماسية فعالة مع دول عدم الانحياز وأوروبا وبلدان آسيوية مؤثرة.
- ضعف دعم الولايات المتحدة المفتوح للتصعيد الإسرائيلي في مراحل معينه.
مؤشرات مبكرة:
- صدور قرارات من هيئات أممية تطالب بتحقيق مستقل.
- فتح تحقيق أولي من مكتب المدّعي العام للمحكمة الجنائية أو إشارات مبكرة لذلك.
- تصاعد التغطية الإعلامية الدولية المستندة إلى وثائق قطــرية.
الآثار الإقليمية:
- عزلة سياسية رمزية للكيان الإسرائيلي في أوساط دول غير غربية.
- تقوية مكانة قطر دوليًا وقدرة أكبر على فرض شروط الوساطة.
- إمكان استخدام المسار القضائي كأداة تفاوضية في مفاوضات لاحقة.
- السيناريو الثالث — الاحتواء الهش
الوصف: إدارة الأزمة بالاحتواء: بيانات تضامن وإجراءات رمزية دون حلول جذرية، وتستمر قطر كوسيط وسط هشاشة مستمرة.
المحركات:
- رغبة معظم الدول في تفادي التصعيد حفاظًا على المصالح الاقتصادية والأمنية.
- ضغوط عسكرية ودبلوماسية تمنع خطوات قوية ضد المعتدي.
- إرهاق الشارع وصعود قوى إقليمية لا ترغب بمواجهة مفتوحة.
مؤشرات مبكرة:
- بيانات إدانة متكررة مع غياب إجراءات عقابية حقيقية.
- استمرار الوساطة القطرية بمهام إنسانية دون إنهاء المعاناة.
- تجميد الملفات القانونية الدولية دون تحقيقات فعالة.
الآثار الإقليمية:
- استمرار الهشاشة الأمنية وزيادة احتمالات تجدد الحوادث.
- تآكل ثقة الشعوب في قدرة أنظمتها على الحماية أو تحقيق نتائج فعلية.
- بقاء الدوحة وسيطًا لكنه أقل فعالية إذا لم يتغير السياق الأمني.
- السيناريو الرابع — إعادة تشكّل التحالفات
الوصف: تحولات في التحالفات الإقليمية: بروز محور (قطر–تركيا–إيران–الجزائر) مقابل محور أكثر تحفظًا (السعودية–مصر–الإمارات)، مع تأثيرات على الديناميكيات الإقليمية والاقتصادية.
المحركات:
- رغبة دول في استثمار الحادثة لتعزيز نفوذها أو لتقديم نفسها كحليف بديل.
- سياسات خارجية متباينة ووضوح خطوط الانقسام حول سبل الرد.
- محاولات دولية لامتصاص الصدمة عبر إعادة توزيع الأدوار.
مؤشرات مبكرة:
- اتفاقيات ثنائية وعسكرية–دبلوماسية جديدة بين دول المحور الصاعد.
- تبادل زيارات رفيعة المستوى وإعلانات تعاون أوسع (طاقة، أمن، إعلام).
- تقارب دبلوماسي محدود بين دول المحور الاحترازي وتكتلات غربية للحفاظ على مصالحها.
الآثار الإقليمية:
- شدّ في نظام التحالفات التقليدي؛ إمكانية حدوث قطبية إقليمية جديدة.
- تأثير على سوق الطاقة وسلاسل التجارة إن تحوّل الصراع إلى حصار اقتصادي متبادل.
- مزيد من التعقيد في مسارات التسوية الفلسطينية–الإسرائيلية.
كل سيناريو ممكن لكنه ليس محتمًا بحد ذاته — تحققه يعتمد على تراكب العوامل الداخلية الإقليمية والدولية وطبيعة الردود المبكرة، لذلك منطقياً تكون السياسة الأكثر حكمة لقطر وللجهات الإقليمية الداعمة هو التحضير المتزامن لثلاثة محاور: تعزيز قدراتها الدفاعية، تحصين شرعيتها القانونية والدبلوماسية، وتشغيل آلة إعلامية مدروسة.
الخــلاصــة
شكّل استهداف قطر محطة فارقة في مسار الصراع، ليس لأنه مجرد انتهاك صارخ لسيادة دولة، بل لأنه كشف عن عمق التحولات في بنية التوازنات الإقليمية والدولية. لقد أظهرت قمة الدوحة تضامنًا عربيًا وإسلاميًا لافتًا، غير أن هذا التضامن ترافق مع تباينات واضحة في أولويات الدول بين خيار التصعيد وخيار الحذر، ويبقى المستقبل مرهون بقدرة الفاعلين، وفي مقدمتهم قطر، على تحويل لحظة الغضب إلى سياسات عملية تستند إلى ثلاثة مسارات متكاملة:
- المسار الدبلوماسي الدولي: تفعيل المؤسسات الأممية والقانونية بما يرفع كلفة الاعتداء.
- المسار الإقليمي والتحالفات: بناء شراكات متوازنة تمنح قدرة ردع جماعي وتوسع خيارات المناورة.
- المسار الإعلامي الاستراتيجي: صياغة رواية موحدة ومقنعة للرأي العام العالمي.
إن غياب هذه الترجمة العملية سيجعل الاحتلال متمادياً في اختبار حدود الردع، بما ينذر بمزيد من عدم الاستقرار الذي لا يهدد قطر وحدها، بل أمن المنطقة بأسرها.
التـوصيـــات
أولًا: على المستوى العربي والإسلامي
- بناء موقف جماعي واضح يرفض الاعتداءات العابرة للحدود ويعتبرها تهديدًا للأمن القومي العربي والإسلامي.
- تفعيل أدوات القانون الدولي من خلال تحركات منسقة أمام مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، بما يعزز الموقف القطري والفلسطيني.
- تعزيز منظومة الدفاع الخليجي–العربي عبر تطوير آليات إنذار مبكر وتنسيق عسكري، بما يحول دون تكرار استهداف أي دولة عربية.
- استخدام القوة الإعلامية العربية والإسلامية لصياغة رواية موحدة تُظهر أن العدوان على قطر هو امتداد للعدوان على فلسطين.
- إعادة الاعتبار لمشروع المقاطعة السياسية والاقتصادية والثقافية للكيان الإسرائيلي وربطه بانتهاكاته المستمرة للسيادة والحقوق العربية.
ثانيًا: ما يخص الفلسطينيين
- الاستفادة من اللحظة السياسية لتوسيع الحاضنة العربية والإسلامية للقضية الفلسطينية وربطها بأمن المنطقة وسيادتها.
- توحيد الخطاب السياسي الفلسطيني بما يركز على البعد القومي والإسلامي للقضية، ويستثمر التعاطف الشعبي الواسع.
- التحرك في الساحة الدولية بالتنسيق مع قطر والدول المتضامنة لرفع ملفات الاستيطان والتهجير والجرائم الإسرائيلية إلى المحاكم الدولية.
- تفعيل أدوات المقاومة الشعبية والإعلامية لربط العدوان على غزة والقدس بالاعتداء على قطر، وإبراز وحدة المعركة.
- تطوير العلاقات مع القوى الإقليمية الداعمة (تركيا، إيران، الجزائر، ماليزيا، وغيرها) من أجل بناء شبكة حماية سياسية وإعلامية للقضية الفلسطينية.