المقدمة
يشكّل الإعلام في الحروب الحديثة جبهة موازية لساحات القتال، بل قد يكون أحيانًا أكثر تأثيرًا في تشكيل الوعي وصناعة القرار، وفي الحرب على غزة التي اندلعت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، برز التضليل الإعلامي كأحد أخطر الأسلحة التي وظّفها الاحتلال الصهيوني لتبرير جرائمه، والتغطية على استهدافه الممنهج للمواطنين الفلسطينيين والبنية التحتية، ولإضعاف التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني. وتجاوزت حملات التضليل حدود التزييف التقليدي لتصبح حربًا نفسية–سياسية مركّبة، تستهدف العقل الجمعي العالمي بقدر ما تستهدف صمود الفلسطينيين على الأرض.
وفي مقابل هذا المشهد، واجه الفلسطينيون ومعهم الأصوات الحرة من العرب والعالم هذه الحرب الإعلامية بأدوات متواضعة لكنها أثبتت فاعلية ملحوظة، إذ تحوّلت صور الشهداء والمجازر وشهادات الصحفيين الميدانيين إلى رواية بديلة كشفت زيف الدعاية الإسرائيلية. وهكذا تبلور صراع على الرواية لا يقل شراسة عن الصراع العسكري، ما يفرض ضرورة دراسته بعمق، وتحليل استراتيجيات الاحتلال وأدواته الإعلامية، واستشراف آفاق المواجهة المستقبلية.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية شاملة لظاهرة التضليل الإعلامي أثناء الحرب على غزة، عبر تفكيك استراتيجيات الاحتلال وأدواته، وبيان انعكاساتها على الرأي العام المحلي والعالمي، ثم استعراض أدوات المواجهة الفلسطينية والعربية، وصولًا إلى تقديم توصيات عملية لتعزيز الرواية الفلسطينية ومواجهة التضليل الإسرائيلي بفاعلية أكبر.
المحور الأول: الإطار النظري للتضليل الإعلامي
التضليل الإعلامي هو عملية منهجية تهدف إلى نشر معلومات زائفة أو مشوهة أو ناقصة بغرض التأثير على الرأي العام وتوجيه المواقف والسلوكيات بما يخدم الجهة المرسلة، وتشمل هذه العملية استخدام وسائل متعددة مثل:
- الأخبار الكاذبة: تقديم معلومات غير دقيقة أو ملفقة لإيهام المتلقي.
- الصور والفيديوهات المفبركة: تعديل أو إخراج مشاهد بطريقة تُغير من معناها الأصلي.
- حملات التشويه المنظمة: تنسيق رسائل إعلامية متكررة ومترابطة بهدف تشويه صورة الخصم أو قضية معينة.
في السياق الفلسطيني، ولا سيما خلال حرب غزة الأخيرة، تم توظيف هذه الأدوات لتحقيق أهداف استراتيجية، من أبرزها:
- تبرير الهجمات على المواطنين: تصوير القصف والعمليات العسكرية على أنها “ردع ضروري” أو “ضربات دقيقة” لضمان الأمن، بينما الواقع يشير إلى استهداف مناطق مدنية بشكل متكرر.
- تحميل المقاومة المسؤولية: إظهار المدنيين كدروع بشرية أو تصوير المقاومة بأنها تستخدم المؤسسات المدنية، بما يبرر القصف ويشوه صورة المقاومة.
- تقديم الاحتلال كضحية: صياغة الرواية الإعلامية بطريقة تُظهر الإسرائيليين في مواجهة خطر دائم، لإحداث تعاطف دولي وتقليل النقد والضغط الدولي على سياسات الاحتلال.
تُظهر هذه الأدوات كيف أصبح الإعلام سلاحًا استراتيجيًا يستخدمه الاحتلال الإسرائيلي لتشكيل الوعي العام، والتحكم في الرواية الإعلامية، وإضعاف الموقف الفلسطيني على المستويين الإقليمي والدولي.
المحور الثاني: استراتيجيات الاحتلال الصهيوني في التضليل الإعلامي
منذ بداية حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، اعتمد الكيان الإسرائيلي على مجموعة من الاستراتيجيات الإعلامية المتطورة لتشكيل الرواية العالمية لصالحه، مستفيدًا من التقدم التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي، وتوظيف منصات التواصل الاجتماعي، وتوجيه الحملات الدعائية الممنهجة.
- تبييض الجرائم: تصوير العدوان كدفاع مشروع عن النفس
بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، بدأت حكومة الاحتلال حملة إعلامية مكثفة لتبرير الحرب على غزة، على سبيل المثال، ادعى المتحدثون العسكريون الإسرائيليون أن استهداف حي الشجاعية كان بسبب “مخازن أسلحة”، رغم أن الشهادات الميدانية والصور الملتقطة أكدت استهداف المواطنين الفلسطينيين، وهذا التناقض بين التصريحات الرسمية والواقع الميداني يعكس استخدام التضليل لتبرير الهجمات على المواطنين العزل. - شيطنة المقاومة: وصفها بـ”الإرهاب” لتبرير القتل الجماعي
سعت حكومة الاحتلال إلى تصوير المقاومة الفلسطينية كمنظمة إرهابية، مما يسهل تبرير الهجمات على المواطنين العزل، وعلى سبيل المثال، تم الترويج لمزاعم بأن المقاومة تستخدم المستشفيات والمدارس كقواعد عسكرية، وهو ما ثبت كذبه بتقارير حقوقية مستقلة، وهذه الادعاءات تم استخدامها لتبرير الهجمات على المنشآت المدنية. - الإغراق المعلوماتي: نشر عشرات البيانات المتناقضة لإرباك المتلقي
اعتمدت حكومة الاحتلال على نشر معلومات متناقضة عبر منصات التواصل الاجتماعي والبيانات الصحفية الرسمية لإرباك الرأي العام، وعلى سبيل المثال، تم تغيير الروايات حول استهداف المواطنين العزل بشكل متكرر، مما أدى إلى تشويش المتابعين وصعوبة التحقق من الحقائق، وهذا التكتيك يهدف إلى تقليل مصداقية المعلومات المتاحة. - إعادة صياغة المصطلحات: استبدال “الشهيد” بـ”قتيل” و”المستوطنة” بـ”حي سكني”
تم استخدام لغة مموهة لتقليل تأثير الصور والتقارير الإعلامية، وعلى سبيل المثال، تم استبدال مصطلح “الشهيد” بـ”قتيل” و”المستوطنة” بـ”حي سكني” لتقليل من وقع الأخبار على الرأي العام الدولي، وهذا التلاعب اللغوي يهدف إلى تقديم صورة أكثر قبولًا للجرائم المرتكبة. - توظيف العاطفة الغربية: إظهار صور عائلات المستوطنين المختبئين في الملاجئ، مقابل تغييب صور أطفال غزة
سعت حكومة الاحتلال إلى استمالة الرأي العام الغربي من خلال التركيز على ما وصفته بــ”معاناة المستوطنين الإسرائيليين”، وتم نشر صور لعائلات المستوطنين المختبئين في الملاجئ، بينما تم تغييب صور أطفال غزة الذين تعرضوا للقصف والتهجير، وهذا التفاوت في التغطية الإعلامية يهدف إلى خلق تعاطف مع الجانب الإسرائيلي وتجاهل معاناة الفلسطينيين.
المحور الثالث: أدوات الاحتلال الصهيوني في التضليل الإعلامي
- الإعلام التقليدي
لعبت قنوات مثل “القناة 12” وصحف مثل “يديعوت أحرونوت” دورًا في نشر الرواية الإسرائيلية، حيث تم عرض تقارير ومقابلات تروج للرواية الرسمية وتقلل من حجم الجرائم. - المتحدثون العسكريون
أمثال أفيخاي أدرعي، الذين يروجون لروايات الاحتلال عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ينشرون مقاطع فيديو وتصريحات تهدف إلى تبرير الهجمات وتوجيه الرأي العام. - الحسابات الوهمية
حملات مبرمجة على تويتر وفيسبوك تستهدف وسم “Gaza” بمحتوى مضلل، حيث يتم نشر تغريدات ومنشورات تروج لأخبار كاذبة أو مشوهة بهدف التأثير على الرأي العام. - الأفلام القصيرة
إنتاج فيديوهات باللغة الإنجليزية تستهدف الجامعات الغربية، حيث يتم عرض مواد إعلامية تروج للرواية الإسرائيلية وتقلل من حجم الجرائم الإسرائيلية. - شركات العلاقات العامة
مثل شركات في الولايات المتحدة وكندا تتولى تحسين صورة الاحتلال لدى الرأي العام، حيث تقوم هذه الشركات بإعداد تقارير ومقابلات تهدف إلى تلميع صورة الكيان الإسرائيلي وتقديمه كداعم للسلام.
المحور الرابع: التأثيرات والنتائج
اعتمد الاحتلال الصهيوني على التضليل الإعلامي لخلق نتائج ملموسة على المستويات المحلية والدولية، سواء على صعيد الرأي العام أو السياسات الرسمية:
- على الرأي العام الغربي
أُنشئت رواية إعلامية تركز على معاناة المستوطنين الإسرائيليين وتُقلل من مآسي المدنيين الفلسطينيين، مما أدى في البداية إلى خلق تعاطف مصطنع مع الاحتلال وتقليل الاهتمام بالتضامن مع غزة.
- مثال حي: خلال أكتوبر–نوفمبر 2023، تبنت العديد من وسائل الإعلام الغربية، مثل BBC وCNN، توصيف الهجمات على غزة بـ”نزاع” بدل “عدوان”، مع تسليط الضوء على قصص المستوطنين في الملاجئ، بينما تغيّبت صور الأطفال الفلسطينيين الضحايا، ما أعطى انطباعًا مشوهًا عن الوضع.
- على الأنظمة السياسية الغربية
دعم التضليل الإعلامي سياسات موالية للاحتلال بحجة “محاربة الإرهاب”، مما قلل من الضغط على الاحتلال لمحاسبته على الانتهاكات.
- مثال حي: بعد أسابيع من عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، أعلنت بعض الدول الأوروبية عن استمرار دعمها العسكري والسياسي للكيان الإسرائيلي مستندة جزئيًا إلى الرواية الإعلامية التي تصور المقاومة الفلسطينية كمنظمة إرهابية.
- على المجتمع الفلسطيني
هدفت حملات التضليل إلى زرع الإحباط وإضعاف الثقة بالنصر، من خلال تضخيم حجم الخسائر العسكرية المزعومة للمقاومة، أو التشكيك في قدرة الفصائل على حماية المواطنين العزل.
- مثال حي: تداولت بعض الحسابات الممولة من الاحتلال على تويتر وفيسبوك معلومات مضللة حول سقوط “مقرات مقاومة رئيسية” في غزة، رغم أن المصادر الميدانية أكدت عدم صحة هذه الروايات.
- على المجتمع الدولي
أسهم التضليل في تشويش فهم جذور القضية الفلسطينية لدى المؤسسات الدولية والجمهور العالمي، مما قلل من فعالية الدعوات الحقوقية والسياسية.
- مثال حي: استخدمت تقارير إسرائيلية مضللة مصطلحات مثل “مناطق نزاع” و”ردود دفاعية دقيقة”، ما أعاق التغطية الدقيقة لانتهاكات حقوق الإنسان وأعطى صورة مشوهة عن طبيعة العدوان.
المحور الخامس: أدوات المواجهة الفلسطينية والعربية
لم يكن التضليل الإعلامي الإسرائيلي بلا مقاومة، إذ برزت مجموعة من الأدوات الفلسطينية والعربية التي أسهمت في كشف الحقائق وتحدي الرواية الصهيونية، رغم محدودية الإمكانات وضخامة آلة الدعاية الغربية المساندة للاحتلال، ويمكن تلخيص أبرز هذه الأدوات فيما يلي:
- الإعلام المقاوم
لعبت قنوات مثل الأقصى وفلسطين اليوم والميادين وغيرها دورًا محوريًا في تقديم رواية بديلة، من خلال تغطيات مباشرة للمجازر اليومية وبث صور الضحايا من الأطفال والنساء، وهو ما شكّل ضغطًا على الإعلام العالمي وأجبره في كثير من الحالات على إعادة النظر في تغطيته، كما أسهمت هذه القنوات في تثبيت حضور القضية الفلسطينية في الوعي العربي والإسلامي رغم محاولات التعتيم. - التوثيق الميداني
قام الصحفيون الفلسطينيون في غزة بدور بطولي في مواجهة آلة التضليل، عبر توثيق القصف والدمار بالصوت والصورة، وبث مشاهد حية انتشرت عالميًا وأصبحت مصدرًا رئيسيًا لوسائل الإعلام الدولية، وقد دفع العشرات منهم حياتهم ثمنًا لهذه الرسالة. - وسائل التواصل الاجتماعي
تحولت المنصات الرقمية إلى ساحة مركزية في معركة الرواية، حيث أطلقت حملات مثل #GazaUnderAttack و #AllEyesOnRafah موجات تضامن عالمية كسرت الحصار الإعلامي المفروض على غزة، وأحرجت الحكومات الغربية الداعمة للاحتلال، كما أسهم الناشطون الفلسطينيون في تقديم محتوى إنساني مباشر، تجاوز الروايات الرسمية ووصل إلى ملايين المستخدمين حول العالم. - دور الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج
شكّلت الجاليات أذرعًا إعلامية وشعبية مهمة، إذ نظمت احتجاجات حاشدة في لندن ونيويورك وبرلين وغيرها من العواصم، رافقتها تغطيات إعلامية واسعة، هذه التحركات لم تكتفِ برفض العدوان بل أسهمت أيضًا في مواجهة التضليل، من خلال رفع صور ضحايا غزة وتوزيع مواد توثيقية مترجمة للرأي العام الغربي. - التقارير الحقوقية الدولية
أصدرت منظمات حقوقية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش تقارير موثقة عن جرائم الاحتلال، تضمنت شهادات وصورًا وأدلة قانونية، ما شكّل ضربة قوية للدعاية الإسرائيلية، ورغم محاولات اللوبي الصهيوني للتشكيك فيها، فقد أصبحت هذه التقارير مرجعًا للصحافة العالمية والهيئات الأممية.
المحور السادس: آفاق المواجهة المستقبلية
تُظهر تجربة الحرب على غزة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن التضليل الإعلامي الإسرائيلي ليس مجرد أداة ظرفية، بل جزء من استراتيجية مستدامة لإدارة الصراع وتشكيل الوعي العالمي. ومن هنا، فإن المواجهة المستقبلية تقتضي تطوير أدوات أكثر مهنية وتنظيمًا، بما يضمن تحصين الرواية الفلسطينية وتعزيز حضورها عالميًا، ويمكن تحديد أبرز هذه الآفاق فيما يلي:
- إنشاء مراكز رصد رقمية
ضرورة تأسيس وحدات متخصصة تعمل على متابعة الخطاب الإسرائيلي والإعلام الغربي بشكل لحظي، وكشف التناقضات والأخبار الكاذبة عبر تقارير قصيرة ومؤثرة تنشر بلغات متعددة، وهذه المراكز يمكن أن تكون بالشراكة مع الجامعات أو مؤسسات المجتمع المدني، لتضمن الاستمرارية والاحترافية. - تدريب وتأهيل الصحفيين الفلسطينيين
الاستثمار في برامج تدريبية مركزة حول تقنيات التحقق من الأخبار (Fact-checking) وأساليب التغطية الميدانية الآمنة، بما يقلل الخسائر البشرية بين الصحفيين ويعزز جودة المواد المنشورة، كما ينبغي إدماج التدريب على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في التحقق والتحليل. - تعزيز المحتوى الرقمي باللغات الأجنبية
الحاجة ماسة لإنتاج مواد إعلامية احترافية (مقالات، فيديوهات قصيرة، إنفوغرافيك) بالإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية والألمانية، بهدف مخاطبة الرأي العام العالمي مباشرة، بعيدًا عن الوسيط الإسرائيلي والغربي، فنجاح حملات مثل #AllEyesOnRafah يثبت أن المحتوى متعدد اللغات قادر على كسر الحصار الإعلامي. - بناء تحالف إعلامي عربي–إسلامي
يتطلب الأمر تشكيل شبكة تعاون بين القنوات الفضائية، والمراكز البحثية، والمنصات الرقمية العربية والإسلامية، لتوحيد الرسائل الكبرى المتعلقة بالجرائم الإسرائيلية وحقوق الفلسطينيين، ومثل هذا التحالف قادر على مراكمة تأثير مضاعف أمام الرواية الصهيونية في المحافل الدولية. - الاستثمار في الذكاء الاصطناعي
يمثل الذكاء الاصطناعي أداة واعدة في المستقبل القريب، سواء في رصد الحسابات الوهمية التي تديرها وحدات الاحتلال السيبرانية، أو في تحليل تدفقات الأخبار المزيفة وتصنيفها، ويمكن تطوير تطبيقات ذكية تسهّل على النشطاء والصحفيين التحقق السريع من المعلومات المتداولة، ما يرفع مستوى المصداقية ويُضعف فاعلية التضليل.
المحور السابع: البعد النفسي والاجتماعي للتضليل
يلعب التضليل الإعلامي دورًا مركزيًا في تشكيل الانطباعات والسلوكيات على المستويات النفسية والاجتماعية، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي والدولي، ومن خلال الحرب على غزة، برزت هذه الأبعاد بوضوح، كما يلي:
- على المجتمع الفلسطيني
يسعى الاحتلال عبر حملاته الإعلامية إلى زراعة الشك في جدوى المقاومة، وإضعاف الروح المعنوية للأهالي والمقاتلين على حد سواء، فالتقليل من حجم المجازر على الفلسطينيين، وظهور روايات مضللة عن “استهداف المقاومة فقط”، تؤدي إلى شعور بالإحباط وربما تشكك البعض في قدراتهم على الصمود. - على العرب
يستخدم الاحتلال الإعلام العربي والغربي لإيصال رسائل تفيد بأن “غزة اختارت مصيرها”، في محاولة لإضعاف التضامن الشعبي والسياسي مع الفلسطينيين، وهذه الحملات تعمل على تفكيك روابط التعاطف العربي التاريخية، وتقليل الدعم المادي والسياسي، ما يضعف تأثير الضغط على الاحتلال. - على الغرب
يسعى التضليل إلى رسم صورة الفلسطيني كمصدر تهديد أمني، سواء في الإعلام التقليدي أو عبر المنصات الرقمية، ويولد هذا عداءً اجتماعياً تجاه المسلمين والعرب، ويخفف الضغط على حكوماتهم لوقف المجازر، ويُبرر السياسات الغربية الموالية للكيان الإسرائيلي.
هذه الأبعاد النفسية والاجتماعية للتضليل تظهر أن الحرب على غزة ليست مقتصرة على القصف والدمار فقط، بل تشمل حرباً على العقل الجمعي، تهدف إلى تقويض الصمود النفسي، وضعف التضامن العربي والدولي، وخلق بيئة ملائمة لاستمرار العدوان دون مساءلة حقيقية، ومن هنا، يصبح تعزيز الرواية الفلسطينية والمقاومة الرقمية والإعلامية ضرورة استراتيجية لمواجهة هذه الحرب النفسية والاجتماعية.
المحور الثامن: التضليل الإعلامي والقانون الدولي الإنساني
يُعتبر القانون الدولي الإنساني أحد الأدوات الأساسية لكشف التضليل الإعلامي، لا سيما في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وخلال الحرب على غزة، استخدم الاحتلال مصطلحات مضللة مثل “الدرع البشري” و “ضربات دقيقة” لتبرير استهداف المواطنين العزل والبنية التحتية الحيوية، في حين أن الأدلة الميدانية أظهرت أن هذه العمليات طالت المدارس والمستشفيات والمناطق السكنية المكتظة بالسكان.
المواجهة القانونية والإعلامية:
- رفع قضايا في المحكمة الجنائية الدولية
تقديم شكاوى ضد الاحتلال لارتكابه جرائم حرب، بهدف محاسبته دوليًا وفضح محاولاته تزييف الحقائق. - استخدام لغة القانون الدولي في الإعلام الفلسطيني
توظيف المصطلحات القانونية الصحيحة يعزز مصداقية الإعلام الفلسطيني ويضع الاحتلال تحت مجهر الرأي العام الدولي، مما يصعب على الإعلام الغربي التهرب من مسؤولياته. - إبراز شهادات منظمات حقوقية
الاستناد إلى تقارير موثوقة من منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش لتوثيق جرائم الاحتلال، يوفر دليلًا ماديًا يدحض المزاعم الإسرائيلية حول “استهداف المقاومة فقط”.
يكشف هذا المحور أن التضليل الإعلامي الإسرائيلي ليس مجرد ادعاءات عابرة، بل جزء من استراتيجية ممنهجة لتبرير انتهاكات القانون الدولي الإنساني، ومن ثم، يصبح الدمج بين العمل الإعلامي القانوني والميداني ضرورة استراتيجية لمواجهة التضليل، وتعزيز المصداقية الفلسطينية على الصعيد الدولي، وحماية المدنيين الفلسطينيين من محاولات التلاعب بالرواية الرسمية.
المحور التاسع: دور الإعلام الغربي في إعادة إنتاج التضليل
يلعب الإعلام الغربي دورًا مركزيًا في إعادة إنتاج التضليل الإسرائيلي، سواء عبر تبني رواية الاحتلال أو تقديم تغطية منحازة، وهو ما يظهر بوضوح خلال الحرب على غزة، ويعود هذا التأثير إلى ضغوط اللوبي الصهيوني في الغرب، والسياسات التحريرية التي تميل إلى مراعاة مصالح الحكومات الداعمة للكيان الإسرائيلي، ومن أبرز مظاهر هذا الدور:
- إعادة صياغة الأحداث وتقليل المسؤولية الإسرائيلية
قامت بعض وسائل الإعلام الغربية الكبرى، مثل BBC وCNN وThe Guardian، بوصف القصف على المدن الفلسطينية بأنه “نزاع” أو “تصعيد”، بدل استخدام مصطلحات دقيقة مثل “عدوان” أو “مجزرة”. هذه اللغة تقلل من إدراك الجمهور الغربي لشدة الجرائم، وتخلق إحساسًا زائفًا بالتوازن بين الأطراف. - تأطير الفلسطينيين كتهديد أمني
أسهم الإعلام الغربي أحيانًا في نشر صورة الفلسطيني كخطر محتمل على أمن المستوطنين الإسرائيليين أو الاستقرار الإقليمي، وهو ما يعزز من شرعية سياسات الاحتلال في الرأي العام الغربي ويقلل من الضغوط على حكوماتهم لوقف العدوان. - فضح التضليل من قبل الإعلاميين المستقلين
رغم سيطرة الخطاب الرسمي، برزت جهود بعض الصحفيين المستقلين ووسائل الإعلام البديلة في فضح التضليل، مثل مراسل الجزيرة الإنجليزية وتقارير مستقلة على تويتر ويوتيوب، حيث وثّقوا المجازر مباشرة، وعرضوا شهادات المواطنين العزل والصور والفيديوهات التي تكشف التضليل الإسرائيلي، ما ساهم في تصحيح بعض المفاهيم لدى الرأي العام العالمي.
الإعلام الغربي ليس مجرد ناقل للأخبار، بل لاعب فاعل في تشكيل الرأي العام الدولي. ومن هنا، تصبح المقاومة الرقمية والإعلامية الفلسطينية ضرورة استراتيجية، لا محيد عنها، لكسر الرواية الغربية المضللة وتعزيز الرواية الفلسطينية الحقيقية.
المحور العاشر: الإعلام المقاوم والرواية الفلسطينية البديلة
على الرغم من محدودية الإمكانات المادية والتقنية، أثبت الإعلام المقاوم الفلسطيني قدرته على نقل الحقيقة وكسر جدار التضليل الإسرائيلي، خاصة خلال الحرب على غزة، ويعد الإعلام المقاوم جبهة موازية في الصراع، تعمل على مواجهة الرواية المضللة ودعم الصمود الفلسطيني.
أبرز مظاهر نجاح الإعلام المقاوم:
- نقل المجازر بشكل مباشر وحقيقي
وثق الإعلام المقاوم صور استهداف المدارس والمستشفيات والمجازر العائلية، التي قلبت الرأي العام العالمي وكسرت بعض الصور النمطية التي حاول الاحتلال رسمها، وهذه التغطية مكنت الجمهور الدولي من رؤية الحقيقة خلف العناوين المضللة. - الصحفيون الميدانيون كشهود عيان عالميين
لعب الصحفيون الميدانيون في غزة دورًا حاسمًا في نقل الأحداث مباشرة، حيث تناقلت وكالات الأنباء الكبرى صورهم وتقاريرهم، ما أعطاها مصداقية أكبر وقلّل من تأثير الروايات الإسرائيلية الزائفة. - المقاومة الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي
شكلت الحملات الرقمية الفلسطينية، مثل وسم #GazaUnderAttack، جبهة موازية لكسر التضليل، واستطاعت توجيه الانتباه الدولي إلى الانتهاكات الإسرائيلية في وقت قياسي. الاعتماد على الفيديوهات والصور والتحليلات الرقمية مكن الإعلام المقاوم من منافسة الرواية الرسمية للاحتلال بشكل فعال، رغم محدودية الموارد.
الإعلام المقاوم لا يقتصر دوره على نقل الأخبار فقط، بل يُعد أداة استراتيجية لمواجهة الحرب النفسية والاجتماعية، وتعزيز التضامن الدولي مع غزة، وإن تعزيز هذه الجبهة عبر التدريب، الدعم التقني، وتوسيع الوصول إلى منصات عالمية يمثل استثمارًا أساسيًا في استدامة الرواية الفلسطينية وتمكينها من كسر التضليل الإسرائيلي على المدى الطويل.
الخـلاصـة
تكشف التجربة منذ السابع من أكتوبر 2023 أنّ التضليل الإعلامي الإسرائيلي لم يعد قادرًا على الهيمنة الكاملة على الوعي العالمي كما في الحروب السابقة، فرغم اعتماده على أدوات ضخمة، من وسائل الإعلام الغربية التقليدية إلى حملات الضغط السياسي والرقمي، فقد اصطدم بواقع جديد فرضته صور المجازر الموثقة من غزة، وانتشارها عبر الإعلام المقاوم والمنصات الرقمية، ما أحدث تحولًا نوعيًا في إدراك الرأي العام العالمي.
إن استمرار الاحتلال في استغلال خطاب “محاربة الإرهاب” و”الدرع البشري” لم يعد كافيًا لتغطية جرائمه، خاصة مع تصاعد التوثيق الحقوقي والقانوني، ونجاح الجاليات الفلسطينية والعربية في تحويل التضامن إلى حراك عالمي ضاغط.
في المقابل، ما زالت المخاطر قائمة، خصوصًا على صعيد تشويه صورة الفلسطيني في الغرب وإضعاف الروح المعنوية داخليًا.
الخلاصة العملية: مواجهة التضليل ليست مسألة إعلامية فحسب، بل هي جزء من معركة التحرر الوطني، تتطلب استراتيجيات مستدامة تشمل: بناء مراكز رصد رقمية، إنتاج محتوى متعدد اللغات، تشكيل تحالفات إعلامية عربية–إسلامية، وتوظيف القانون الدولي كسلاح في المعركة الخطابية.
وبذلك، فإن تعزيز الرواية الفلسطينية البديلة وتحصينها بالحقائق الميدانية، والتوثيق المستمر للجرائم، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة، يشكّل ليس فقط خط دفاع أمام آلة التضليل الصهيوني، بل أيضًا ركيزة أساسية في معركة الوعي التي تحدد مستقبل القضية الفلسطينية في الرأي العام الدولي.
التوصيـات
- إنشاء منصات رصد وتدقيق إعلامي فلسطينية تتولى متابعة الأخبار والروايات الإسرائيلية أولًا بأول، وكشف التضليل عبر تقارير دورية سريعة ومبسطة باللغتين العربية والإنجليزية.
- تدريب وتأهيل الكوادر الإعلامية وتنظيم ورش متخصصة للصحفيين والناشطين في مجال التحقق من الأخبار (Fact-checking)، وأساليب التصوير والتوثيق، وضبط السردية بما يخاطب الجمهور الغربي.
- تعزيز الإعلام الرقمي المتعدد اللغات وإنتاج محتوى قصير واحترافي بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، يستند إلى شواهد وصور ميدانية، مع توظيف تقنيات التصميم والفيديو الجذاب.
- توحيد الخطاب الإعلامي الفلسطيني والعمل على تطوير رسائل إعلامية موحدة في القضايا الكبرى (المجازر، الحصار، التهجير) لتفادي التناقض وتضارب الروايات.
- توسيع الشراكات مع الإعلاميين المستقلين عالميًا والتواصل مع صحفيين أحرار ووسائل إعلام بديلة (يوتيوب، منصات بودكاست، مدونات) لدعم الرواية الفلسطينية وتجاوز القيود على الإعلام التقليدي.
- تمكين الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج وتزويدهم بمحتوى جاهز ومترجم، وتدريبهم على الخطاب الموجه للرأي العام الغربي، لزيادة تأثير الاحتجاجات والفعاليات التضامنية.
- توظيف القانون الدولي كجزء من السردية الإعلامية واستخدام لغة “جرائم الحرب” و”الإبادة الجماعية” بشكل مستمر في البيانات والتغطيات الإعلامية، وربط كل مجزرة بالنصوص القانونية الدولية.
- إنتاج أفلام قصيرة وشهادات حية والتركيز على القصص الإنسانية (الأطفال، النساء، ذوو الإعاقة، الأطباء) بدل الاقتصار على الأرقام والإحصاءات، لأن الرواية الإنسانية أقدر على اختراق الرأي العام الغربي.
- الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة وتطوير أدوات لرصد الحملات الموجهة على منصات التواصل، وكشف الحسابات الوهمية الإسرائيلية، وتحليل اتجاهات التضليل.
- بناء تحالف إعلامي عربي–إسلامي شعبي يضم مؤسسات وجمعيات ومبادرات شبابية، يعمل على تنسيق الجهود ومشاركة المواد الإعلامية، ويعزز حضور الرواية الفلسطينية عالميًا.