تحوّل صورة حماس الدولية: بين الواقعية السياسية وثوابت المقاومة

تحليل استراتيجي
المركز الفلسطيني للدراسات السياسية

مقدمة

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، برزت حركة المقاومة الإسلامية حماس في موقع جديد، يختلف نسبيًا عن الصورة التقليدية التي ارتبطت بها لعقود باعتبارها حركة مقاومة عسكرية خالصة-طبقًا للرؤية الدولية-، فقد أظهرت الحركة خلال الأشهر الطويلة من الحرب وما تخللها من مفاوضات ومبادرات لوقف إطلاق النار، قدرة متزايدة على إدارة الملفات السياسية والدبلوماسية، وعلى مخاطبة القوى الإقليمية والدولية ببراغماتية محسوبة توازن بين المبادئ والمصالح.

هذه التحولات لم تأتِ بمعزل عن الواقع المركّب الذي تعيشه القضية الفلسطينية اليوم، إذ باتت حماس مطالَبة — في نظر المجتمع الدولي والإقليمي — بأن تكون طرفًا فاعلًا في أي تسوية محتملة، وليس مجرد قوة مقاومة، ومن هنا برزت ملامح «إعادة تعريف الصورة الدولية للحركة»؛ فبينما حافظت حماس على ثوابتها الأساسية ، فإنها في الوقت ذاته قدّمت نفسها كفاعل سياسي رشيد قادر على خوض مفاوضات معقدة، وصياغة مواقف منسجمة مع المتغيرات الدولية.

لقد استثمرت الحركة أدوات متعددة لتحقيق هذا التحول في صورتها:

من توظيف خطاب مزدوج يجمع بين البراغماتية والتشدّد، إلى الانخراط في قنوات تواصل غير مباشرة مع واشنطن عبر وساطات إقليمية ودولية، مرورًا بتكتيكات تفاوضية ذكية جعلت من ملف الأسرى نقطة ارتكاز لبناء نفوذ سياسي ومعنوي في آنٍ واحد.

غير أن هذا التحول لم يكن خاليًا من التحديات، إذ تواجه حماس اختبارًا صعبًا في الموازنة بين شرعيتها المقاومة وشرعيتها السياسية، وبين مطلب الواقعية الذي تفرضه التحولات الدولية وبين التمسّك بالثوابت الوطنية التي تشكل جوهر هويتها، من هنا تسعى هذه الورقة إلى تحليل كيفية إدارة حماس لهذه المعادلة الدقيقة، من خلال أربعة محاور رئيسية تتناول:

1. إعادة تعريف الصورة الدولية للحركة وتعزيز وجودها كفاعل سياسي.

2. طبيعة الخطاب المزدوج بين البراغماتية والتشدّد.

3. استراتيجية الحركة في مخاطبة واشنطن واستغلال سمات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

4. أبرز التحديات والفرص التي تواجهها في الحفاظ على هذا التوازن المعقد بين التمسك بالمقاومة والسلاح ومتطلبات السياسية المتوازنة.

المحور الأول: إعادة تعريف الصورة الدولية لحماس – وتعزيز وجودها كفاعل سياسي

1. سياق التحول

حرصت حركة حماس منذ بداية النزاع الأخير على تقديم نفسها ككيان قادر على إدارة الملفات الإنسانية والسياسية، إلى جانب دورها في المقاومة المسلحة، وقد جاء هذا التحول نتيجة إدراك الحركة لأهمية:

  • بناء مصداقية دولية تتيح لها التفاوض مع الوسطاء الدوليين والإقليميين.
  • تعزيز صورتها كطرف مسؤول قادر على حماية المواطنين وإدارة الأزمات الإنسانية.
  • وضع نفسها كـعنصر أساسي في أي تسوية مستقبلية، سواء على صعيد ملف الأسرى أو الملفات السياسية الكبرى.

هذا التحول لم يأتِ فجأة، بل جاء نتيجة تراكم خبرات الحركة في التفاوض مع الوسطاء، لا سيما مصر وقطر، وغيرهما من الدول والكيانات.

2. أدوات إعادة التعريف

التواصل الإعلامي الدولي: عملت حماس على توجيه رسائل مدروسة للجهات الدولية، مؤكدة التزامها بحقوق الفلسطينيين، مثل الإفراج عن الأسرى، حماية المواطنين، ورفض أي حلول جزئية تنطوي على التنازل عن الحقوق الوطنية.

الخطاب الرسمي للقادة: ركز قادة الحركة، على الموازنة بين المقاومة والدبلوماسية. وتظهر تصريحاتهم أنها تهدف إلى:

  • التأكيد على أن حماس ليست مجرد قوة مقاومة مسلحة، بل فاعل سياسي قادر على التفاوض.
  • الإبقاء على مكاسب استراتيجية في ملفات حساسة مثل الأسرى والجرحى.
  • إشراك المجتمع الدولي في الضغط على الكيان الإسرائيلي لضمان التزامه بالقوانين الإنسانية.
  • الوساطات الإقليمية والدولية: استغلال الدور المصري والأممي والقطري لتأكيد الجدية في التفاوض، بما يعزز صورتها كطرف متوازن وقادر على إدارة الملفات المعقدة.

3. الشواهد العملية

  • نجاح الحركة في تحقيق تقدم ملموس في ملف الأسرى من خلال الضغوط الدبلوماسية والوساطات، ما أسهم في إبرازها كجهة مفاوضة فعّالة.
  • قدرتها على إدارة التوازن بين المقاومة والمفاوضات، حيث لم تتنازل عن المطالب الأساسية مثل وقف كلي للحرب وإنسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة وإدخال المساعدات، بينما أظهرت مرونة براغماتية في ملف تبادل الأسرى.
  • استخدام البيانات الرسمية واللقاءات الإعلامية لتوضيح خطابها المزدوج، ما عزز صورتها على الساحة الدولية.

هذه الاستراتيجية عززت مكانة حماس على المستويين الإقليمي والدولي، وجعلتها مرجعية حقيقية في أي مفاوضات مستقبلية، حتى مع الأطراف الغربية التي تعتبرها سابقًا مجرد حركة مسلحة.

المحور الثاني: الخطاب المزدوج والمتوازن

الخطاب المزدوج الذي اتبَعته حماس خلال المفاوضات الأخيرة يجسد استراتيجية متعمدة: البراغماتية المحدودة في الملفات الإنسانية (أولاً: الأسرى) مع تشبّث صريح بعدم التفريط بأي من الحقوق الفلسطينية الثابتة، وهذه الاستراتيجية لا تُفسَّر كتناقض بل كتكتيك رسائلي واستراتيجي يهدف إلى تحقيق أقصى مكاسب ممكنة على أرض الواقع—دون خسارة الشرعية الشعبية أو التخلي عن الموقع السياسي الطويل الأمد.

1) البراغماتية في ملف الأسرى

أ. لماذا الأسرى؟

ملف الأسرى هو ورقة إنسانية ذات صدى عاطفي وسياسي داخلي كبير، ويمكن تحويلها إلى مكسب دبلوماسي سريع ومرئي (صور للعائلات، استقبال الأسرى، ضغط على الرأي العام الدولي)، وهذا يجعل من ملف الأسرى أداة مفاوضات فعالة لتحقيق مطالب إنسانية عاجلة مع أقلّ ثمن سياسي ممكن.

ب. آليات العمل البراغماتي

العمل مع وسطاء إقليميين ودوليين: مصر وقطر والوساطة الأمريكية لعبت دورًا تقنيًا في ترتيب أجزاء صفقات التبادل والتهدئة، وحماس استثمرت هذه القنوات لبلورة اتفاقات مرحلية قابلة للتصوير والتنفيذ.

صياغة قبول مشروط: بدلاً من قبول أعمى، قدمت حماس قبولًا بشروط: الإفراج عن الأسرى مقابل وقف دائم أو انسحاب جزئي، وتأمين إدخال المساعدات، وهذا منحها هامش تفاوض أكبر من مجرد رفض/قبول ثنائي.

ج. شواهد تطبيقية حديثة

جولات التهدئة والصفقات المرحلية خلال 2025 أفضت إلى إطلاق دفعات أسرى مقابل أسرى إسرائيليين، وأظهرت قدرة حماس على تحويل الملف لنتيجة عملية (إفراجات متتابعة/مراحل)، ومع ذلك بقيت شروط التنفيذ والتعقب مشكلة مركزية (تأخر إفراجات، إعادة اعتقالات في حالات سابقة).

د. مخاطر وقيود البراغماتية

الاعتماد على ضمانات وساطة خارجية: قد تؤدي إلى تجميد سياسي طويل إن لم تترافق مع آليات مراقبة وملزمة.

إمكانية استغلال الطرف الآخر (الكيان الإسرائيلي/الوسيط) لجزء إنساني لتبريد الساحة أو كغطاء لإعادة ترتيب حقائق ميدانية لاحقة، وتُظهر دراسات وراثة التبادل أن حكومة الاحتلال احتفظت عبر أدوات قانونية وأمنية بقدرة على إعادة اعتقال بعض المفرج عنهم أو تقييد حركتهم.

2) التشدد في الحقوق الوطنية

أ. ماهية التشدد

“التشدّد” هنا يعني عدم القبول بأي ترتيبات تفصل الملف الإنساني عن المطالب الجوهرية: وقف الحرب، الانسحاب وغيرها من المطالب الرئيسية، وحماس وظّفت هذا التشدد لتصميم خطها الأحمر: لا تنازل عن المطالب أو تفريط بالحقوق حتى مقابل تنازلات مرحلية.

ب. أدوات الحفاظ على الثوابت

بيانات رسمية واضحة: صياغة بيانات تُظهر قبولًا مشروطًا أو “نعم لكن” (accept-but) تحصر تطبيق أي بنود في إطار مرجعية وطنية موحّدة (مثلاً: شرط التسليم لإدارة فلسطينية متفق عليها).

تحويل الملفات الحساسة إلى إطار وطني: مطالبة بإشراك منظمة التحرير/السلطة أو جهة فلسطينية جامعـة في “اليوم التالي” لمنع فرض إدارة دولية أحادية، وهذا يقلّل من احتمال تمرير ترتيبات تقصّي السيادة الفلسطينية.

ج. شواهد

في الردّ الأخير على خطة ترامب، فصلت حماس بين بند التبادل (قابل للتفاوض) وبند السيادة والإدارة (غير قابل للتفريط)، مطالبة بأن تدار قضايا “اليوم التالي” من داخل إطار فلسطيني لا وصاية دولية، وهذا الخطاب ظهر واضحًا في البيان وتلقّفه الرأي العام الإقليمي كموقف يحمي الحقوق.

د. لماذا هذا التشدد مجدٍ؟

يحافظ على شرعية الحركة داخليًا (الشارع لا يقبل التفريط بالحقوق مقابل تنازلات مؤقتة).

يجبر الوسطاء والقوى الدولية على التعامل مع القضايا السياسية كقضايا ذات أفق طويل، لا مجرد قضايا إنسانية عابرة.

3) الفاعلية الإعلامية — كيف جمعت حماس بين الرسائل؟

أ. استراتيجية التوجيه الجماهيري

الجمهور المحلي والعربي: رسائل تشدد ورفض لأي وصاية أو تنازل جوهري — تكريس صورة الحامي للحقوق.

الجمهور الدولي والوسطاء: رسائل براغماتية إنسانية عن الأسرى ووقف الحرب — إظهار أنها طرف مسؤول قابل للتعامل معه سياسياً.

ب. أدوات التنفيذ

استخدام بيانات رسمية مدروسة، مؤتمرات صحفية، لقاءات وسطاء، وإطلالات قيادات ، مع توظيف منصات إقليمية مؤثرة (الجزيرة، وسائل قطرية وعربية، فضلاً عن قنوات الاتصال المباشرة مثل التليجرام).

ج. أمثلة على فاعلية الرسائل

الردّ المتوازن أو “الذكي” على خطة ترامب الذي استخلصه كثير من المحلّلين كنجاح دعائي واستراتيجي — اضطرَّ الرئيس الأمريكي للإعلان عن وقف فوري مؤقت للقصف، ما دلّ على أن الرسالة وصلت للكسور المستهدفة: الرأي العام الأمريكي/الغربي والرئاسة نفسها.

د. تحليلات نقدية

الفاعلية الإعلامية لا تعادل ضمانات تنفيذية؛ هي تخلق ربحًا دبلوماسيًا ونفسيًا لكنه هشّ إن لم يُترجم لآليات تحقق على الأرض (مراقبة، ضمانات سياسية، مشاركة فلسطينية موحّدة).

الحملة الإعلامية قد تُستنزف لو لم تصحبها أدوات تنفيذية ومتابعة داخلية (توثيق، مؤسسات محلية قادرة على المتابعة).

استنتاجات جزئية من هذا المحور (ما الذي يوضّحه التحليل؟)

1. الخطاب المزدوج ليس تناقضًا بل تكتيكًا مدروسًا: يمكّن حماس من التقاط نتائج مباشرة (أسرى، مساعدات، تخفيف العنف) مع الحفاظ على الشرعية الوطنية.

2. النجاح يعتمد على آليات تثبيت ما يُنجز: دون آليات متابعة ومراقبة وشرطية تنفيذية، قد تتحوّل المكاسب إلى منقوصات (إعادة اعتقال، تقييد حركة، غياب إصلاح دائم)، دروس صفقة 2011 توضح هذا الخطر.

3. الوسيط الإقليمي مأزوم لكنه لا يزال مفتاحًا: مصر وقطر (وأحيانًا تركيا) تقدم القنوات، لكن قدراتها على إجبار الطرف الإسرائيلي محدودة — لذا لا بد من تكامل ضمانات إقليمية ودولية.

المحور الثالث: مخاطبة واشنطن واستغلال سمات ترامب

أحد عناصر اللعبة الدبلوماسية في خضمّ الأزمة الحالية هو فهم كيفية عمل صانع القرار الأمريكي نفسه، وبالنظر إلى شخصية الرئيس ترامب وسلوكه السياسي العام، برزت أمام حماس فرصة تكتيكية: تحويل سمات الرئيس (حب الظهور، الميل إلى الحلول الاستعراضية التي تُسجِّل له إنجازًا) إلى رافعة تفاوضية تُمكّن الحركة من تحقيق مكاسب إنسانية وسياسية دون المساس بثوابتها الأساسية، والخطِّ الاستراتيجي هنا لا ينطوي على «خداع» الطرف الآخر بقدر ما يطمح إلى استغلال ميكانيكيات صنع القرار لدى طرفٍ مُعيّن لصالح أهداف فلسطينية محددة.

1) لماذا شخصية ترامب تُشكّل هدفاً تكتيكياً للاستثمار؟

حبّ الظهور وإنجاز «صفقة»: تقارير ومقالات رأي بارزة تناولت بوضوح ميل ترامب إلى البحث عن إنجازات دولية تُكرّس صورته كـ«صانع سلام»، وهو دافع يمكن أن يولِّد ضغطًا سياسيًا على أطراف أخرى للقبول بصفقات سريعة. هذا الميل يخلق نافذة زمنية يمكن للجهة التفاوضية استغلالها.

الاستعراضية الإعلامية: قرار ترامب إعلان مواقف سريعة أو عبر منصاته الخاصة يجعل من النتائج المعلنة ذات أثر إعلامي فوري.

2) كيف وظفت حماس هذه الخصائص؟

صياغة «مقترحات قابلة للتصوير»: بدل الدخول في مناقشات تقنية معقدة على مستوى السيادة، ركّزت حماس على بنود  قابلة للتنفيذ الفوري — إطلاق دفعات من الأسرى— كل ذلك يظهر بصورة إعلامية فورية تُعطي للرئيس الأميركي «إنجازًا مرئيًا»، ونتائج هذا التوجّه كانت سريعة التأثير في لحظة الضغط الإعلامي.

العمل عبر وسطاء: استغلت حماس قنوات القاهرة والدوحة والمنصات الوسيطة الأخرى لتسليم صيغها التفاوضية للطرف الأمريكي، مما سمح بتمرير حلول مرحلية بسرعة نسبية، دون الحاجة إلى لقاءات مباشرة مع واشنطن أو تل أبيب في المراحل الأولى، وهذا التكتيك خفّض الاحتكاك السياسي المباشر.

الرسائل المشروطة: القبول المشروط (الـ “yes, but”) أعطى حماس هامشًا لرفض البنود التي تمس الثوابت (مثل نزع السلاح أو الوصاية الدولية) وفي الوقت نفسه منحها صورة متعاونة أمام العالم، وهذا الأسلوب مكّنها من جذب تأييد إعلامي دولي جزئي وتحريك مواقف واشنطن بضغط الصورة.

3) النجاحات الجزئية: ماذا حصل على أرض الواقع؟

تهدئة فورية مؤقتة/وقف نار محدود: الضغوط الإعلامية والدبلوماسية التي تلت بيان حماس أدت إلى تهدئة ميدانية نسبية في مراحل سريعة، وهو ما يتيح زيادة في إدخال مساعدات وإجراء تبادل أسرى.

تحويل الانتباه الدولي إلى ملفات إنسانية قابلة للقياس: الأسرى  والمساعدات أصبحوا عناوين رئيسية في تغطية إعلامية دولية وبمثابة مؤشر ضغط على صناع القرار الغربيين لطلب وقف فوري للقتل، هذا مكسب سياسي هام.

4) حدود وإشكالات هذه الاستراتيجية (المخاطر)

التحوّل إلى إنجازات «اظهارية» هشّة: ما يتمّ عرضه إعلاميًا قد لا يتضمن آليات تنفيذية أو ضمانات للالتزام طويل الأمد؛ النتيجة: مكاسب آنية قد تتبخر دون آليات مراقبة وشرطية.

اعتماد على إرادة فرد رئاسي: الاستثمار في نزعة فردية لدى رئيس (حب الظهور) يجعل النجاح مرهونًا بتقلبات سياسية وشخصية؛ تغيّر المزاج أو الحسابات الانتخابية قد يغيّر الموقف بسرعة.

احتكاك إسرائيلي محتمل: حكومة الاحتلال قد تقبل بنتائج إنسانية مؤقتة لكنها ترفض أي بند يهدد أهدافها الطويلة (مثل نزع سلاح المقاومة أو الإدارة المحلية المستقلة -البعيدة عن المنطلقات الوطنية-)، ومعها احتمال العودة السريعة للتصعيد إن لم تُلبَّ المطالب الإسرائيلية الأساسية.

5) استنتاجات تكتيكية — ماذا تعلمنا وما ينبغي أن تُصاغ كسياسة عملية؟

1. الاستفادة الذكية من الخصائص الشخصية لوسيطٍ معين فعّالة لكنّها قصيرة الأمد: إنجازات «صُورية» ضرورية لكنها ليست بديلاً عن ضمانات تنفيذية.

2. جعل المكاسب قابلة للتثبيت قانونيًا وتشغيليًا: ربط أي صفقة ببروتوكولات تنفيذية (آليات مراقبة دولية/إقليمية، جداول زمنية، قوائم محددة بالأسماء والإجراءات) يقلّل من خطر الانقلاب على الاتفاق لاحقًا.

3. الشرط الفلسطيني الموحد: أي اتفاق يجب أن يكون مرفوعًا إلى مرجعية فلسطينية موحّدة (مطلوب الاتفاق الداخلي والتوحد امام المخاطر) كي لا يتحول إلى صفقة ثنائية تُستغل لتهميش الحقوق السياسية.

4. تنويع الضمانات وعدم الاقتصار على فرد واحد: إلى جانب الضغط الإعلامي على الشخصيات، يجب ضمان وجود قوى إقليمية (مصر، قطر) ودول أخرى مثل  (تركيا)ومؤسسات دولية (الأمم المتحدة، الصليب الأحمر) كضامنين مؤسسيين.

أسلوب مخاطبة واشنطن عبر استثمار ميكانيكيات صنع القرار لدى رئيسٍ مثل ترامب أثبت فعالية تكتيكية محدودة: منح حماس نتائج سريعة ومكاسب دبلوماسية رمزية، وأجبر واشنطن وحكومة الاحتلال على التعامل معها كلاعب لا يمكن تجاهله، لكن هذا المسار ليس بديلاً عن بناء آليات تنفيذية وضمانات مؤسسية وطويلة الأمد، والرهان الاستراتيجي الصحيح هو الجمع بين النفوذ الإعلاني/التصويري والاستراتيجية القانونية والمؤسسية لتثبيت أي مكاسب يتمّ انتزاعها عبر استغلال السمات الشخصية للوسيط.

المحور الرابع: التحديات والفرص

أولًا: التحديات البنيوية والسياسية

1. الموازنة الدقيقة بين البراغماتية والتشدّد

تواجه حركة حماس تحديًا مركّبًا في الحفاظ على صورتها المزدوجة:

فمن جهة، عليها أن تُقدّم نفسها كقوة مقاومة لا تُفرّط في الثوابت الوطنية وهي تُشكّل مصدر شرعيتها الداخلي.

ومن جهة ثانية، تحتاج إلى أن تُظهر أمام القوى الإقليمية والدولية صورة الفاعل السياسي “العقلاني” القادر على الالتزام بالاتفاقات الإنسانية والسياسية.

إن أي اختلال في هذا التوازن قد يُفقدها إما ثقة جمهورها الشعبي، أو مصداقيتها أمام الوسطاء الدوليين.

وتُظهر التجربة منذ وقف إطلاق النار المؤقت في يناير 2025 أن الحركة نجحت مرحليًا في الإمساك بهذا الخيط، لكن الضغوط تتزايد مع كل جولة تفاوضية جديدة.

2. الضغوط الإقليمية والدولية

تواجه حماس ضغوطًا متزايدة من أطراف عربية وغربية تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي في غزة بما يتناسب مع تصوّرات ما بعد الحرب.

مصر تضغط باتجاه ترتيبات أمنية جديدة تضمن استمرار دورها كوسيط أساسي دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة عن القطاع.

قطر تسعى إلى التوفيق بين استمرار الدعم الإنساني وعدم الاصطدام مع واشنطن.

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يربطان أي انفتاح سياسي على حماس بقبولها ضمنيًا بشروط الرباعية الدولية (شروط سابقة للحرب).

وتُدرك الحركة أن أي استجابة جزئية لهذه الضغوط قد تُضعف موقعها السياسي لاحقًا، لذلك تتعامل معها بتكتيك “القبول المقيد”: أي القبول بالمساعدات أو الوساطات دون الالتزام السياسي الكامل بشروطها.

3. تحديات ما بعد الحرب: شرعية الإنجاز

بعد كل جولة من المواجهة العسكرية، تجد الحركة نفسها أمام امتحان شرعية داخلي:

هل استطاعت تحقيق مكاسب ملموسة توازي حجم التضحيات؟

الحرب الأخيرة وما تلاها من مفاوضات حول الأسرى والمساعدات الإنسانية وضعت الحركة أمام اختبار صعب؛ إذ تحتاج إلى ترجمة إنجازاتها العسكرية إلى مكتسبات سياسية ودبلوماسية، وإلا ستواجه خطر تآكل الرصيد الشعبي الذي حازته أثناء الحرب.

4. التحدي الإعلامي والسردي

تحاول حكومة الاحتلال، بدعم أمريكي وغربي، شيطنة حماس دوليًا وإعادة إنتاجها كجماعة “غير عقلانية” ترفض السلام، بينما تحاول الحركة في المقابل إعادة تعريف خطابها السياسي والإعلامي، عبر قنواتها المختلفة السياسية والاعلامية، لتأكيد أنها جزء من معادلة الاستقرار وليست تهديدًا له.

هذا التحدي يتطلب منها أدوات احترافية أكثر في الدبلوماسية العامة والإعلام الموجه للخارج، بما يتجاوز الخطاب المقاوم التقليدي.

ثانيًا: الفرص الاستراتيجية والسياسية

1. تعزيز الشرعية السياسية والدولية

إن نجاح حماس في إدارة مفاوضات الأسرى، وفي إظهار قدرتها على ضبط الميدان عند الحاجة، يُكسبها موقعًا متقدمًا في أي ترتيبات سياسية مقبلة.

العديد من المراقبين الدوليين، بما في ذلك في مراكز أبحاث غربية (مثل “تشاتام هاوس” و”المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”)، بدأوا يُقرّون بأن تجاهل حماس في أي حلّ مستقبلي لغزة لم يعد ممكنًا سياسيًا أو واقعيًا.

هذا الإدراك بحد ذاته يُعتبر مكسبًا استراتيجيًا للحركة، ويمكن البناء عليه لتوسيع شبكة الاتصالات غير الرسمية مع أطراف أوروبية وأممية.

2. التحالفات الإقليمية المرنة

تمتلك حماس اليوم شبكة علاقات أكثر تنوّعًا من أي وقت مضى:

مع قطر وتركيا التي تقدمان الدعم السياسي والإنساني والإعلامي.

مع إيران التي لا تزال تمثل داعمًا لحماس وخياراتها.

ومع أطراف جديدة بدأت تُبدي استعدادًا للتواصل غير المباشر معها (مثل بعض الدوائر في الأردن ومصر).

هذه البيئة تمنح الحركة قدرة على المناورة بين المحاور الإقليمية دون الانخراط الكامل في أيٍّ منها، وهو ما يتيح لها الحفاظ على استقلالية قرارها السياسي نسبيًا.

3. تحوّل المزاج الدولي تجاه الكيان الإسرائيلي.

الحرب الأخيرة أفرزت واحدة من أعمق التحولات في الرأي العام الغربي تجاه الكيان الإسرائيلي منذ عقود؛ حيث تصاعدت الدعوات في الجامعات الغربية (الأمريكية والأوروبية) وكذلك البرلمانات الأوروبية لمحاسبة الاحتلال على جرائمه، وتزايدت حركة المقاطعة الدولية (BDS).

هذا التحول يمكن لحماس والفصائل الفلسطينية استثماره عبر بناء سردية قانونية وإنسانية تربط مقاومتها بالدفاع المشروع عن النفس، ضمن خطاب متقن ومهني أمام الرأي العام الغربي.

4. فرصة إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني

في ظلّ غياب قيادة فلسطينية موحدة، تشكل حماس اليوم القوة الأكثر تنظيمًا وحضورًا على الأرض.

نجاحها في الجمع بين المقاومة والبراغماتية يمنحها فرصة للمساهمة في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس مقاومة وسياسية جديدة، لا تلغي الآخرين بل تُعيد توزيع الأدوار بين الفصائل والمستقلين، ما يمنحها عمقًا استراتيجيًا.

إن التحديات التي تواجه حماس ليست ظرفية، بل هي جزء من عملية إعادة تعريف موقعها في النظامين الإقليمي والدولي بعد حرب الإبادة على غزة.

لكن في المقابل، فإن الفرص المتاحة أمامها غير مسبوقة منذ تأسيسها: فقد نجحت في تعزيز حضورها كحركة مقاومة إلى فاعل سياسي لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات مستقبلية تخص القضية الفلسطينية.

ويكمن رهانها القادم في قدرتها على تثبيت هذا الاعتراف الواقعي دوليًا، دون أن تُفرّط في خطابها المقاوم الذي يشكّل أساس شرعيتها الشعبية والتاريخية.

الاستنتاجات

1. أعادت حركة حماس تعريف ذاتها في المشهد السياسي الدولي من خلال الجمع بين خطاب المقاومة وخطاب السياسة، ما مكّنها من الظهور كفاعل سياسي رشيد قادر على التكيّف مع التحولات دون المساس بجوهر مشروعها التحرري.

2. اعتمدت الحركة خطابًا مزدوجًا محسوبًا يوازن بين البراغماتية السياسية والتشبّث بالثوابت الوطنية، الأمر الذي أتاح لها تحقيق مكاسب إنسانية ملموسة – كملف الأسرى – دون تقديم تنازلات تمسّ الحقوق الجوهرية للشعب الفلسطيني.

3. أظهرت حماس قدرة لافتة على قراءة المزاج السياسي الأمريكي في عهد ترامب واستثمار شخصيته ذات الطابع الاستعراضي لتحقيق مكاسب تفاوضية وإعلامية محدودة، ما عكس نضجًا متزايدًا في إدارتها لملفات الضغط الدولي.

4. يبقى التحدي المركزي أمام الحركة هو تحقيق التوازن المستدام بين المكاسب السياسية والحقوق الوطنية، بما يحول دون اهتزاز شرعيتها الداخلية أو فقدان الثقة الخارجية، ويضمن استمرار حضورها كطرف لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات مستقبلية.

5. تُبرز التجربة الأخيرة نضوجًا متدرّجًا في أدوات الحركة الخطابية والسياسية، إذ استطاعت أن تنتقل من موقع ردّ الفعل إلى موقع التأثير في بيئة إقليمية ودولية معقّدة، مما يفتح أمامها فرصًا جديدة لترسيخ حضورها ضمن معادلات القوة الإقليمية.

الخلاصة

تكشف تجربة حركة حماس في التعامل مع خطة ترامب عن تحوّل نوعي في مقاربتها للسياسة الدولية، إذ لم تعد الحركة تتعامل مع المبادرات الغربية من موقع الرفض المطلق، بل من موقع الاشتباك السياسي الواعي الذي يسعى إلى توظيف التناقضات الدولية والإقليمية لخدمة الأهداف الوطنية.

وقد أظهرت هذه التجربة أن المرونة السياسية لا تتناقض بالضرورة مع الثوابت التحررية، بل قد تمثّل أداة لتعزيزها ضمن موازين قوى متغيرة، وفي الوقت ذاته، فإن نجاح الحركة في تحقيق هذا التوازن سيظل مرهونًا بقدرتها على الحفاظ على صدقيتها الشعبية ومكانتها كممثل للمقاومة، دون الوقوع في فخاخ التسويات المفروضة أو التحوّل إلى طرف إداري في واقع سياسي هش.

إن المشهد الراهن يعيد التأكيد على أن معركة الوعي والخطاب السياسي لا تقل أهمية عن معركة الميدان، وأن قدرة الفاعل الفلسطيني على إدارة هذا الوعي هي التي ستحدد ملامح موقعه في أي ترتيبات قادمة لاسيما إذا نضجت من داخل التجربة الفلسطينية ذاتها.

التوصيــات

1. ترسيخ نهج الخطاب المزدوج المتوازن وضرورة الاستمرار في الجمع بين البراغماتية السياسية والتشبّث بالثوابت الوطنية، بما يضمن مخاطبة المجتمع الدولي بلغة المصالح المشتركة دون الإخلال بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

2. تعميق التحالفات الإقليمية الفاعلة وتوسيع شبكة العلاقات مع القوى الإقليمية — ولا سيما مصر وقطر وتركيا وإيران — على أسس من التفاهم الاستراتيجي لا التبعية السياسية، بهدف حماية مكتسبات المقاومة وضمان بقاء الحركة طرفًا مركزيًا في أي تسويات أو ترتيبات مستقبلية تخصّ غزة أو القضية الفلسطينية عامة.

3. استثمار الفرص التفاوضية بحكمة استراتيجية والتعامل مع الملفات التفاوضية — خاصة ملف الأسرى وإعادة الإعمار — بوصفها أدوات لبناء شرعية سياسية دولية، مع الحرص على توظيفها لإعادة إنتاج صورة الحركة كفاعل وطني مسؤول قادر على الجمع بين الواقعية والمقاومة.

4. تعزيز الجبهة الوطنية الداخلية والسعي نحو بلورة موقف وطني موحد يضم مختلف القوى والفصائل الفلسطينية، إذ إن تقديم صورة متماسكة أمام المجتمع الدولي يشكل رصيدًا تفاوضيًا ضاغطًا، ويسهم في تحصين الحركة من محاولات العزل أو التفكيك السياسي.

5. بناء منظومة رصد وتحليل للسياسات الدولية لمتابعة توجهات القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الصين، روسيا) وتحليل مواقفها تجاه فلسطين، بما يتيح استباق التحولات واستثمار اللحظات السياسية التي يمكن أن تعزز موقع الحركة الإقليمي والدولي.

6. تفعيل الدبلوماسية الإعلامية وتكثيف الحضور الإعلامي الخارجي للحركة عبر المنابر الغربية والعربية المؤثرة، وإنتاج سردية فلسطينية متوازنة تُبرز المظلومية الإنسانية وتُظهر في الوقت ذاته نضج الحركة السياسي، بما يعيد تعريفها كجزء من الحل لا مجرد طرف في الصراع.

شارك:

المزيد من المقالات