مقدمة
تعيش المرأة الفلسطينية في قطاع غزة تحت نيران واحدة من أكثر الحروب وحشية في التاريخ الحديث، منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي تجاوز كونه صراعًا عسكريًا ليصبح حرب إبادة ممنهجة تستهدف الوجود الفلسطيني في جوهره، أرضًا وشعبًا وهوية. وفي هذا المشهد الدموي، لم تكن النساء مجرد ضحايا هامشيات، بل كنّ في قلب الاستهداف المركّب جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا، حيث جرى تصفيتهن وقصفهن، وتجريدهن من المأوى والخصوصية، ودفعهن إلى أدوار مرهقة فرضتها ظروف الحرب والدمار الشامل.
لم تقتصر الحرب على النيل من حياة النساء، بل امتدت إلى تفكيك بنيتهن الاجتماعية، وتجريدهن من الحماية والمؤازرة، ووضعهن في مواجهة قاسية مع مهام البقاء والصمود ورعاية العائلة، وسط انهيار كافة مقومات الحياة. وبذلك، فرضت الحرب على النساء تحولات جذرية في أدوارهن، وصاغت واقعًا جديدًا يحمّلهن أعباءً مضاعفة لا تقتصر على النجاة، بل تمتد إلى قيادة جهود البقاء الجماعي في ظل الإبادة.
يتناول هذا التقرير الخاص الواقع المركّب للنساء في غزة تحت العدوان، مسلطًا الضوء على أنماط الاستهداف المباشر وغير المباشر، ومستعرضًا ما واجهته النساء من عنف جسدي ونفسي، ونزوح قسري، وانتهاك للكرامة، إلى جانب التحولات الطارئة في أدوارهن داخل الأسرة والمجتمع. كما يطرح التقرير توصيات عملية موجهة للجهات الحقوقية والإنسانية، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن العدالة للنساء جزء لا يتجزأ من معركة العدالة الوطنية الفلسطينية.
الاستهداف المباشر والمنهجي للنساء
أ. القتل والإصابات
منذ بداية الحرب، شكّلت النساء هدفًا مباشرًا للآلة العسكرية الإسرائيلية، إذ تعكس الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة في غزة (يونيو/حزيران 2025) أن نحو 70% من الشهداء والجرحى هم من النساء والأطفال. وتوضح هيئة الأمم المتحدة للمرأة (مايو/أيار 2025) أن أكثر من 10 آلاف امرأة استشهدن، بينهن 6 آلاف أم، ما خلّف نحو 19 ألف طفل يتيم، في مشهد إنساني كارثي متعدد الأبعاد.
عمليات القتل لم تكن عشوائية فحسب، بل نُفذت ضمن استراتيجية استهداف ممنهج للنساء، من خلال القصف المباشر لمنازل المدنيين، أو القنص العمد للنساء أثناء محاولات الفرار، أو عبر قصف الملاجئ والمدارس والمستشفيات التي كانت تأوي نازحين.
ب. التهجير القسري وانعدام الأمان
اضطُر أكثر من 1.9 مليون فلسطينية وفلسطيني للنزوح القسري، وغالبًا ما كانت النساء في مقدمة قوافل النزوح، يحملن الأطفال والمسنين، ويواجهن مشاق السفر تحت القصف، سيرًا على الأقدام لمسافات تجاوزت أحيانًا 20 كيلومترًا.
أما مراكز الإيواء، إن وُجدت، فكانت غير مهيأة لاستقبال هذا الكم من النازحين، حيث تنام النساء في العراء أو في مدارس مكتظة بلا دورات مياه، أو وسائل نظافة، أو أدنى مقومات الخصوصية، ما هدد كرامتهن وعرضهن للأمراض المعدية والانتهاكات النفسية.
أدوار جديدة وأعباء مضاعفة
أ. تولي مسؤولية إعالة الأسرة
مع فقدان المعيلين الذكور، وجدت آلاف النساء أنفسهن مضطرات لتحمّل عبء إعالة الأسرة. وفي بيئة معدومة الموارد، قمن بأعمال شاقة لم تكن جزءًا من أدوارهن التقليدية، مثل جمع الحطب، وجلب المياه من مسافات بعيدة، وإعداد الطعام الجماعي في ظروف بدائية، والبحث عن سبل لتأمين الحليب للأطفال.
وفي كثير من الحالات، اضطرت النساء للمقايضة بين الطعام والدواء، أو بيع مقتنيات بسيطة مقابل البقاء، وسط انهيار شبه كامل للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية.
ب. الأعباء المنزلية تحت القصف
في ظل غياب الكهرباء والغاز، أصبحت المهام اليومية شاقة وخطيرة. وتشير شهادات موثقة إلى أن بعض النساء يخبزن يوميًا ما بين 80 و100 رغيف باستخدام أفران بدائية من الطين وسط الدخان والغبار.
وقد أدت هذه الأعمال إلى إصابات جسدية متعددة: من الحروق، إلى أمراض الجهاز التنفسي، إلى الإرهاق المزمن، فضلًا عن الاضطرار لأداء هذه المهام وهنّ يعانين من الجوع أو الإصابة أو الحزن على فقدان الأحبة.
الأثر النفسي والجسدي والاجتماعي
أ. فقدان الخصوصية والكرامة الجسدية
تشكل مراكز النزوح بيئة قهرية تهدد الصحة النفسية والجسدية للنساء، إذ أجبرتهن الظروف على ارتداء الحجاب طوال اليوم، وتجنب استخدام الحمامات بسبب الاكتظاظ، ما أدى إلى التهابات وأمراض في الجهاز البولي والتناسلي.
كثيرات لجأن إلى حبوب منع الدورة الشهرية تجنبًا للحرج أو العدوى، ما تسبب في مضاعفات صحية واضطرابات هرمونية ونفسية.
ب. الحوامل والمرضعات
حسب تقارير أممية، خضعت آلاف النساء للولادة في ظروف غير إنسانية: بدون تخدير، وبدون أدوات تعقيم، وفي بيئة مفتوحة. كما واجهت الأمهات المرضعات خطر الجفاف ونقص التغذية، ما أثر على قدرتهن على إرضاع أطفالهن.
ج. النساء المصابات أو المعاقات
أصيبت آلاف النساء بإعاقات دائمة نتيجة القصف، من بينها بتر أطراف، وإصابات في الوجه والعينين، وحروق عميقة، ولم يحصل معظمهن على علاج مناسب، بسبب انهيار القطاع الصحي.
انعدام الرعاية الصحية التخصصية، البدنية والنفسية، جعل من الألم حالة مزمنة، وفتح الباب أمام حالات اكتئاب وعزلة شديدة.
د. الأثر النفسي طويل الأمد
النساء الناجيات يواجهن آثارًا نفسية عميقة: من اضطراب ما بعد الصدمة، إلى الاكتئاب المزمن، إلى الأرق والخوف من المجهول، وترتبط هذه الأعراض بفقدان الأحبة، أو النجاة من تحت الأنقاض، أو مشاهدة مشاهد مروّعة.
ومع غياب البيئة الآمنة والدعم النفسي المجتمعي، تتعمق هذه الأزمات، مما يهدد البنية الاجتماعية للنساء في غزة على المدى الطويل.
العنف الجنسي والتمييز المركب
رغم صعوبة التوثيق في سياق الحرب، إلا أن مؤشرات واضحة تشير إلى أن النساء تعرضن لأشكال من العنف الجنسي أو المعنوي، ضمن سياق التجريد من الإنسانية، ويتجلى ذلك في:
- حرمانهن من الخصوصية في الملاجئ.
- إجبار بعض النساء على خلع ملابسهن في نقاط التفتيش أو أثناء الاعتقال.
- التعرض للإهانات اللفظية والجسدية في مراكز الاحتجاز المؤقت أو عند الحواجز.
وتؤكد المنظمات النسوية على الحاجة العاجلة لفرق توثيق مختصة وآمنة لتسجيل هذه الجرائم ومحاسبة المسؤولين عنها، كما تطالب بإدماج قضية العنف الجنسي في التقارير الحقوقية الدولية كجزء من جرائم الحرب المرتكبة في غزة.
شهادات حية من الميدان
في قلب مآسي الحرب، تبرز الشهادات الفردية للنساء الناجيات من العدوان كوثائق إنسانية دامغة تسرد تفاصيل العذاب والمقاومة اليومية. وتوثّق هذه الأصوات التحولات العميقة في حياة النساء، كاشفةً عن معاناتهن في تفاصيلها الأكثر خصوصية:
- أم مجدي – نازحة من بيت حانون:
“فقدتُ زوجي وابني في اليوم نفسه، ولم يكن لدي وقت للحزن، بقيتُ مع ثلاث بنات أقوم بكل شيء وحدي، وحتى الحطب أقطعه بيدي لأن لا أحد يساعدني. أصبحت أماً وأباً وخادمة في آن واحد.” - نسرين مسعود (35 عامًا) – نازحة في مركز إيواء:
“نقص المياه يعني غياب النظافة، وهذا سبب أمراضًا معدية كثيرة بين النساء. لم نستحم منذ أسابيع، والفوط الصحية غير متوفرة، والنساء يلجأن إلى وسائل بدائية قد تسبب لهن التهابات خطيرة.” - سعاد أبو حصيرة (43 عامًا) – من دير البلح:
“أخبز يوميًا لنحو 35 شخصًا من عائلتي والنازحين معنا، لم أعد صاحبة قرار في منزلي. أعيش تحت رحمة المكان، وتحت عيون الناس طوال الوقت، ألهث بين الحطب والدخان والوجع.” - أم إبراهيم – حامل في شهرها الرابع:
“أنام على الأرض منذ ثلاثة أشهر، ولا مكان لي بين النساء والأطفال. آلام ظهري تمنعني من الوقوف، وفي الليل أخاف أن ألد فجأة من دون مساعدة، ولا دواء، ولا تعقيم، ولا أحد يسأل.”
تشكل هذه الشهادات انعكاسًا لواقع النساء تحت القصف، وتقدّم صورة واضحة عن معاناة تُعاش بصمت، وعن بطولات يومية غير مرئية تستحق أن تُوثّق وأن تُسمع عالميًا.
التحديات المتوقعة ما بعد الحرب
رغم المعاناة المستمرة أثناء العدوان، إلا أن ما ينتظر النساء الفلسطينيات في قطاع غزة بعد توقف الحرب قد يكون أكثر قسوة وتعقيدًا، إذ إن تداعيات الحرب لا تنتهي عند وقف إطلاق النار، بل تبدأ مرحلة طويلة من المواجهة مع تبعات الدمار والانهيار المجتمعي والمؤسسي، وتتجلى في عدة مستويات:
- صعوبة العودة إلى المناطق المدمرة: عودة النساء إلى منازلهن ستكون محفوفة بالمخاطر، نظرًا لتدمير آلاف الوحدات السكنية، وتحول أحياء كاملة إلى ركام. ويُتوقع أن تقضي النساء شهورًا أو سنوات في مراكز نزوح مؤقتة أو مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.
- نقص الرعاية الطبية والاجتماعية المتخصصة بالنساء: الحرب دمّرت النظام الصحي، بما في ذلك عيادات الأمومة والتوليد والرعاية النفسية. النساء الحوامل، والناجيات من العنف، والمصابات سيجدن أنفسهن دون دعم متخصص، ما قد يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة.
- انهيار شبكات الحماية والدعم النفسي المجتمعي: فُككت بفعل الحرب العديد من البنى التقليدية للحماية، مثل الأسرة الممتدة، والجيران، ومؤسسات المجتمع المدني، وهو ما سيترك النساء، خصوصًا الأرامل واليتيمات، عرضة لمخاطر الاستغلال والعنف الأسري والإقصاء الاجتماعي.
- ارتفاع البطالة وتراجع فرص التعليم: بعد فقدان آلاف الرجال مصادر رزقهم، ستتحمل النساء العبء الأكبر في تأمين الدخل، في ظل انكماش اقتصادي حاد وغياب برامج دعم سريعة. كما أن كثيرًا من الفتيات قد يُحرمن من مواصلة التعليم بسبب النزوح، أو الزواج المبكر، أو الفقر.
- هشاشة قانونية ومؤسسية في حماية الحقوق: تعاني غزة أصلًا من فجوات قانونية ومؤسسية في ما يخص حماية المرأة، وبعد الحرب يُتوقع تفاقم هذه الفجوات بسبب انشغال الجهات الحكومية بإعادة الإعمار، مما يعزز هشاشة أوضاع النساء ويحدّ من وصولهن إلى العدالة أو الإنصاف.
تشير كل هذه المؤشرات إلى ضرورة التعامل مع مرحلة ما بعد الحرب كأزمة متعددة الأبعاد، تتطلب تدخلًا نسويًا عاجلًا، واستجابات دولية مخصصة تراعي خصوصية احتياجات النساء، لضمان ألا تتحول معاناتهن خلال الحرب إلى واقع دائم بعد انتهائها.
الخلاصة
تمثل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة محطة مفصلية في تاريخ المعاناة الفلسطينية، وخصوصًا في حياة النساء اللواتي وجدن أنفسهن في قلب دائرة النار والحرمان والتهجير. فالمرأة في غزة لم تكن فقط ضحية قصف أو نزوح، بل أصبحت محورًا لصراع تتقاطع فيه الجغرافيا مع الجندر، والسياسة مع الحياة اليومية.
لقد كشفت هذه الحرب عن هشاشة الأنظمة الإنسانية في التعامل مع النساء خلال النزاعات، وأبرزت كيف يمكن أن يتحول الجسد الأنثوي إلى ميدان استهداف سياسي ممنهج. لكنها، في المقابل، كشفت أيضًا عن قوة النساء وقدرتهن على التحمّل والتكيّف وممارسة أدوار جديدة تحت أقسى الظروف.
إن ضمان مستقبل آمن وعادل للنساء في غزة لا يمر فقط عبر وقف الحرب، بل عبر إعادة بناء الحياة على أسس من العدالة والتمكين والمشاركة. وعلى المجتمع الدولي، ومؤسسات حقوق الإنسان، والحركات النسوية، أن تتعامل مع النساء الفلسطينيات لا بوصفهن ضحايا فقط، بل بوصفهن شريكات في الصمود، وصانعات للكرامة، ومهندسات للغد.
التوصيات
- المطالبة بوقف شامل لإطلاق النار، وضمان الحماية الخاصة للنساء في النزاعات المسلحة، وفقًا لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
- إرسال فرق طبية نسائية متخصصة لتقديم الرعاية العاجلة للحوامل، والمرضعات، والناجيات من العنف، مع التركيز على الصحة النفسية والدعم الطارئ.
- ضمان إيصال فوري وواسع للمستلزمات الصحية للنساء، ومنتجات النظافة الشخصية، وأدوية النساء، كجزء من الاستجابة الإنسانية الطارئة.
- إقامة مراكز متنقلة في مناطق النزوح والمناطق المتضررة لتوفير خدمات طبية ونفسية متكاملة للنساء والفتيات.
- تمكين مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية والمنظمات النسوية من توثيق انتهاكات الاحتلال بحق النساء بآليات مهنية وآمنة، مع ضمان حماية الضحايا والشهود.
- اعتماد خطط لإعادة الإعمار تضع النساء في قلب العملية، بما في ذلك إعادة تأهيل مرافق صحة الأم والطفل، والصحة النفسية، والخدمات المجتمعية.
- ضمان تمثيل النساء في لجان إعادة الإعمار، والمؤسسات السياسية والمجتمعية، دعمًا لحقهن في قيادة مستقبل غزة.
- الضغط على المجتمع الدولي لتفعيل آليات المحاسبة، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق النساء الفلسطينيات.
- إطلاق برامج عاجلة لدعم المشاريع النسوية، وتوفير منح مالية وتدريب مهني للنساء المتضررات، تمهيدًا لإعادة إدماجهن في دورة الحياة الاقتصادية.
- تشكيل هيئة مستقلة من القيادات النسوية لمتابعة تنفيذ هذه التوصيات، وضمان دمج احتياجات النساء في جميع مراحل الإغاثة والتعافي وإعادة الإعمار.