المقدمة
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، دخلت المقاومة الفلسطينية مرحلة نوعية جديدة في مسار الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث انتقلت من موقع الدفاع المحدود إلى ميدان المبادرة الاستراتيجية والاشتباك المركب، في واحدة من أطول وأعنف جولات المواجهة العسكرية في تاريخ القضية الفلسطينية.
فقد فاجأت المقاومة، وعلى رأسها كتائب القسام، المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بعملية “طوفان الأقصى”، التي كشفت هشاشة الردع الإسرائيلي، وأطلقت حربًا مفتوحة غير مسبوقة على قطاع غزة، ترافقت مع دمار واسع النطاق وتهجير قسري ومجازر جماعية، ما جعل منها حربًا شاملة على الإنسان والأرض والسلاح.
ورغم الفارق الهائل في موازين القوة، وتكامل آلة التدمير الإسرائيلية برًا وجوًا وبحرًا، إلا أن المقاومة الفلسطينية أظهرت خلال الحرب قدرة استثنائية على الصمود، والتكيّف، والمباغتة، بل وتحقيق مكاسب ميدانية وسياسية ونفسية أربكت قيادة الاحتلال وأفقدتها القدرة على الحسم. فقد تميز الأداء العسكري للمقاومة بسلسلة من التكتيكات المتقدمة والكمائن المركبة والاشتباكات القريبة، التي عرقلت التقدم الإسرائيلي، وكبّدته خسائر بشرية ومادية جسيمة، وفرضت عليه التراجع مرارًا من مناطق أعلن السيطرة عليها.
تنطلق هذه الورقة من هذه الخلفية لتقديم قراءة تحليلية معمّقة في أداء المقاومة الفلسطينية خلال الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، بالتركيز على التحولات في العقيدة القتالية، وتطور التكتيك العملياتي، وفاعلية الأداء الاستراتيجي، مستندة إلى مصادر ميدانية من بلاغات الفصائل، واعترافات إسرائيلية رسمية، وتغطيات إعلامية عربية ودولية موثقة.
كما تسعى الورقة إلى استشراف الدلالات المستقبلية لهذه التجربة العسكرية، وما تفتحه من فرص وما تفرضه من تحديات، مع تقديم مجموعة من التوصيات القابلة للتطبيق لتعزيز فعالية المقاومة في الميدان والسياسة والإعلام.
أولًا: الإرث القتالي وتراكم الخبرة: جذور الأداء المقاوم في حرب غزة
لم يكن الأداء القتالي المتقدم الذي أظهرته المقاومة الفلسطينية في حرب غزة المستمرة منذ أكتوبر 2023 وليد لحظة منفصلة أو ظروف طارئة، بل هو ثمرة مسار طويل من التراكم القتالي والتنظيمي والتكتيكي، بُني عبر حروب كبرى ومعارك موضعية متفرقة، صاغت معًا ما يمكن وصفه بـ”العقل العملياتي الجماعي” للمقاومة.
- الحروب الكبرى كمسارات تطوير
- حرب الفرقان (2008–2009): مثلت المواجهة الأولى الشاملة بعد الانقسام السياسي، واختبرت قدرة المقاومة على الصمود رغم عنصر المفاجأة الجوية وتفوق الاحتلال الناري، ما كشف ضرورة التنظيم والجاهزية المسبقة.
- حرب حجارة السجيل (2012): شهدت تطورًا في دقة واستهداف الصواريخ، وتسجيل أول ضربات نوعية في العمق الإسرائيلي، وأظهرت نضوجًا في الردع المتبادل وتوسيع دائرة الاستهداف العسكري المقاوم.
- حرب العصف المأكول (2014): كانت نقطة التحول الكبرى، حيث ظهرت الأنفاق الهجومية للمرة الأولى، وأدار مقاتلو المقاومة معارك مباشرة مع الجيش الإسرائيلي داخل المستوطنات، إضافة إلى إسقاط طائرات مسيّرة والاعتماد على قيادة ميدانية مرنة ولامركزية.
- معركة سيف القدس (2021): نقلت المقاومة المعركة إلى مستوى الربط بين الميدان الجغرافي والقضية السياسية (القدس، الشيخ جراح)، وأكدت قدرتها على خوض جولة مكثفة ومنسقة، وكسب تأييد شعبي عربي واسع.
- معارك ما بين الحروب كتجارب تراكمية
- معركة وحدة الساحات (2022): كرّست مبدأ الرد السريع والمنسق على محاولات الاستهداف الإسرائيلي للقادة الميدانيين، وعززت قدرة المقاومة على ضبط تصعيد محدود دون الانجرار إلى حرب شاملة، ما يدل على نضج في اتخاذ القرار العملياتي.
- الردود الموضعية على الاغتيالات والاقتحامات في الضفة (2019–2023): أظهرت انسجامًا بين الجبهات، واستعدادًا لفتح جبهات متعددة عند الحاجة، ما مهّد للبنية النفسية والتنظيمية التي انفجرت في “طوفان الأقصى”.
- دروس تراكمية انعكست في الحرب الأخيرة
كل جولة من الجولات السابقة أضافت للمقاومة:
- خبرة في بناء الأنفاق والدفاع متعدد الطبقات.
- قدرة على دمج الإعلام بالعمل العسكري الميداني.
- مرونة في الانتقال من الدفاع إلى الهجوم وفق السياق.
- تطوير أدوات محلية الصنع لمواجهة اختلال ميزان التسليح.
- إرث قيادي مقاوم ينتج أجيالًا جديدة من القادة الميدانيين رغم الاستهداف المستمر.
هذه الدروس تراكمت لتظهر بوضوح في تكتيكات “طوفان الأقصى” ثم في إدارة الحرب طويلة النفس التي تلتها، حيث اتسمت المعركة الحالية بـ الاستباق، المبادأة، الامتصاص، والاستنزاف المدروس، وهو ما لم يكن ممكنًا دون الإرث القتالي التراكمي الذي راكمته المقاومة الفلسطينية على مدار أكثر من 15 عامًا من الحروب والمعارك المتتالية.
ثانيًا: السياق العام للحرب
مثّلت عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها كتائب القسام صباح يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بداية طور جديد في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، انتقلت فيه المقاومة من موقع الرد إلى موقع الهجوم الشامل المنسق، في ضربة أربكت المنظومة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وأفضت إلى اندلاع حرب هي الأطول والأكثر تعقيدًا في تاريخ غزة منذ احتلالها.
أ. جذور التصعيد: دوافع الانفجار
تراكمت خلال السنوات التي سبقت الحرب أسباب شديدة التوتر، أبرزها:
- تصاعد الاقتحامات للمسجد الأقصى وتهويد القدس من قِبل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
- الحصار المستمر لغزة منذ أكثر من 17 عامًا، وما تبعه من تجويع ممنهج، وانهيار للبنى التحتية والخدمات الإنسانية.
- تصاعد جرائم الاحتلال في الضفة الغربية، لا سيما في مخيم جنين ونابلس، واستخدام الطائرات بدون طيار لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية في عمليات الاغتيال بالضفة.
- فشل الوساطات السياسية وتراجع الآمال بأي أفق لإنهاء الاحتلال أو تخفيف الحصار.
وقد أكدت كتائب القسام في بيانها الافتتاحي للعملية:
“أطلقنا عملية (طوفان الأقصى) ردًا على تدنيس الأقصى، وجرائم الاحتلال بحق شعبنا وأسراه ونسائه ومقدساته”.
ب. العملية المفاجئة: الكسر الكبير
انطلقت العملية عند الساعة 6:30 صباحًا، بضربة صاروخية مكثفة تجاوزت 5 آلاف صاروخ وقذيفة، وفق بيان المقاومة.
وتبع ذلك اختراق بري واسع نفذته وحدات النخبة في كتائب القسام وتبعتها فصائل أخرى مثل سرايا القدس وكتائب المقاومة الأخرى، شمل:
- اقتحام عشرات المواقع العسكرية في غلاف غزة.
- السيطرة المؤقتة على أكثر من 20 مستوطنة.
- قتل وأسر مئات الجنود والمستوطنين.
- نقل الأسرى إلى داخل غزة بطرق آمنة.
واستغرقت العملية البرية الهجومية أكثر من 6 ساعات متواصلة من السيطرة الميدانية والتعامل المباشر، في مشهد غير مسبوق منذ عقود.
ج. الفشل الإسرائيلي: اعترافات وشهادات
شكّل حجم المفاجأة والاختراق انهيارًا مدويًا لعقيدة الردع والاستخبارات الإسرائيلية.
وقد أقر رئيس جهاز “الشاباك” رونين بار بعد يومين من العملية بأن:
“فشلنا في تقدير نوايا حماس، ولم نرَ ما كانت تستعد له، لقد وقعنا في فخ استخباراتي لم نعهده من قبل”. (هآرتس، 10 أكتوبر 2023)
كما وصف رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي ما جرى بـ”الزلزال” الذي أصاب الجيش في قلبه، مع اعترافه ببطء الاستجابة وفقدان السيطرة على الميدان خلال الساعات الأولى.
د. القرار السياسي بالحرب الشاملة
في مساء اليوم نفسه، عقد المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) اجتماعًا طارئًا وأعلن بدء “حالة حرب كاملة”، مع أهداف شاملة تمثلت في:
- “تدمير بنية حماس العسكرية”.
- “إنهاء حكمها على غزة”.
- “استعادة جميع الأسرى”.
ومنذ ذلك الحين، اندلعت حرب شاملة استُخدمت فيها القوة الجوية والبرية والبحرية الإسرائيلية بأقصى طاقاتها، وتواصلت حتى لحظة إعداد هذه الورقة، لتقترب من انتهاء عامها الثاني دون تحقيق أهداف الاحتلال المعلنة.
ثالثًا: تحولات في العقيدة القتالية للمقاومة
شهدت العقيدة القتالية للمقاومة الفلسطينية في حرب غزة 2023–2025 تطورًا نوعيًا من حيث البنية الذهنية والتكتيكية، ما مكّنها من مجاراة جيش الاحتلال في معركة معقدة وطويلة، بل والتفوق عليه في كثير من المراحل، ويمكن تمييز أبرز ملامح هذه العقيدة الجديدة في النقاط التالية:
- الهجوم أولًا: من الدفاع إلى المبادأة الاستراتيجية
بدأت المقاومة الجولة الحالية من المواجهة بعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، والتي شكلت ضربة عسكرية وأمنية مفاجئة للكيان الإسرائيلي، وأظهرت تحول المقاومة من عقلية “رد الفعل” إلى المبادأة الاستراتيجية وشن الضربة الأولى.
“عملية طوفان الأقصى مثّلت زلزالًا استراتيجيًا قلب موازين المعركة” (هآرتس، 8 أكتوبر 2023).
“فوجئنا كليًا بالهجوم، هذا فشل استخباري وعسكري تاريخي” – رونين بار، رئيس الشاباك. - المرونة الدفاعية واستعادة السيطرة
رغم التفوق الجوي والتدمير واسع النطاق، استطاعت المقاومة استعادة زمام المبادرة الميدانية في مناطق سبق أن ادّعى جيش الاحتلال “تطهيرها”، مثل بيت حانون، جباليا، وخان يونس.
ذكرت صحيفة جروزاليم بوست أن:
“الجيش الإسرائيلي يواجه معضلة متجددة، حيث تعود حماس للانتشار في مناطق سبق أن أعلن الجيش السيطرة عليها، السيطرة النارية لم تعد تعني حسمًا ميدانيًا.”
وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن الجيش أعاد اقتحام جباليا للمرة الخامسة، دون تحقيق استقرار ميداني فيها. - الاشتباك من نقطة الصفر: قتال يحيّد التكنولوجيا
باتت المقاومة تفضّل الاشتباك القريب جدًا (التحام مباشر)، لتفادي تأثير الطائرات المُسيّرة والمدفعية، والاستفادة من البنية العمرانية المعقدة في غزة.
وقد وثقت بلاغات القسام عشرات العمليات التي تم فيها استدراج الجنود لمسافات قريبة ثم الاشتباك معهم، كما في كمائن “أبواب الجحيم” في حي التنور شرق رفح، وكمين “كسر السيف” في بيت حانون. - التكامل بين الهجوم والدفاع في آنٍ واحد
لم تعد المقاومة تكتفي برد الفعل أو انتظار تقدم العدو، بل دمجت بين العمل الدفاعي العميق والرد الهجومي المرن، عبر:- تفجير عبوات على جرافات ودبابات.
- كمائن مركبة تليها اشتباكات من نقطة الصفر.
- قصف تجمعات العدو أثناء الإخلاء.
كمثال على ذلك، كمين الزنة بتاريخ 14 يونيو، حيث تم تدمير دبابة ثم مباغتة الجنود عند خروجهم من الآلية بأسلحة خفيفة، وهو ما أسفر عن مقتل ضابط وجندي وإصابة آخرين، حسب بيان القسام والتغطية الصحفية.
- تعمّد استنزاف العدو وإدارته نفسيًا
تحولت عقيدة المقاومة إلى ما يمكن وصفه بـ”الاستنزاف متعدد الطبقات”، عبر:- تكثيف الكمائن والعمليات في مناطق غير متوقعة.
- دفع الاحتلال لتكرار اقتحام نفس المناطق، دون سيطرة ثابتة.
- الضغط على الجنود نفسيًا من خلال الرعب الدائم من الاختراق أو الاستدراج.
وقد علّقت صحيفة معاريف على ذلك بقولها:
“الجيش الإسرائيلي غارق في وحل غزة، ويخشى عرض الحقيقة على المستوى السياسي”
(معاريف، 15 يوليو 2025).
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن العقيدة القتالية للمقاومة لم تعد تعتمد على ردود الفعل أو الصمود السلبي، بل باتت قائمة على الهجوم المدروس، والدفاع النشط، والكمائن المرنة، والاشتباك القريب، والاستنزاف طويل الأمد، ما يمثل نقلة نوعية في الأداء العسكري للمقاومة في غزة.
رابعًا: التكتيكات العملياتية في الميدان
اعتمدت المقاومة الفلسطينية خلال حرب غزة 2023–2025 منظومة تكتيكية متعددة المستويات، امتزج فيها الابتكار المحلي مع الخبرة الميدانية المتراكمة، وظهرت قدرتها على التكيّف مع بيئة عملياتية معقدة يندر نظيرها.
وقد تميز الأداء العملياتي للمقاومة بستة أنماط رئيسية من التكتيك، سنعرضها أدناه مستندين إلى بلاغات رسمية من كتائب القسام وسرايا القدس، إلى جانب تقارير إعلامية وشهادات إسرائيلية.
- الكمائن المركبة والاستدراج المتسلسل
مثّلت الكمائن المتقنة أبرز أشكال المواجهة في هذه الحرب، إذ اعتمدت المقاومة على أسلوب الاستدراج المتسلسل، بدءًا من تفجير عبوة، ثم الاشتباك، ثم تفجير نفق أو عبوات إضافية، يليها قصف مدفعي مباشر أو صاروخي.
من أبرز الأمثلة:
- كمين “كسر السيف” في بيت حانون (أبريل 2025): استُدرجت قوة استطلاع إسرائيلية إلى جيب ملغوم، ثم قُصفت بقذائف مضادة للدروع وعبوات مضادة للأفراد، وأُتبع الهجوم بوابل من قذائف RPG والهاون.
- كمين “الخط الشرقي” شرق جباليا (يونيو 2025): استُهدفت ناقلة “نمر” بقذيفة “الياسين 105” وعبوة “شواظ”، أعقبها استهداف جيب “همر” بقنبلة ناسفة، ثم فتح نيران رشاشة على طائرة مروحية من نوع “يسعور” أجبرت على الانسحاب.
- كمين بيت حانون (8 تموز 2025): أدى لمقتل 5 جنود وإصابة 14 من كتيبة “نتساح يهودا”، نتيجة تفجير عبوات على خط سير دورية راجلة (وفق الجيش الإسرائيلي وقناة 12).
- الاشتباك القريب من المسافة صفر
اعتمدت المقاومة بشكل متزايد على الاشتباك القريب مع الجنود، حيث تُحيد الطائرات والمدفعية، وتُظهر فيها وحداتها مهارة قتالية فردية عالية. وقد تحوّلت هذه السياسة إلى تكتيك معتمد خاصة في الأحياء الشرقية للمدن كـ:
- حي الشجاعية: جرى رصد عدة عمليات اشتباك من نقطة صفر، منها الهجوم على منزل تحصنت فيه وحدة مشاة إسرائيلية، باستخدام قذائف RPG و”الياسين 105″، ثم اقتحامه بالأسلحة الرشاشة (13 و17 مايو 2025).
- حي الجنينة برفح: خلال عمليات “أبواب الجحيم”، تم الاشتباك المباشر مع قوة إسرائيلية وتفجير منزل ملغّم ثم استهداف دبابتين داخل ذات المنطقة، ما أدى إلى انسحاب مفاجئ للقوة الإسرائيلية (4–8 مايو).
(اللواء فايز الدويري، تحليل قناة الجزيرة):
“يُفضل المقاتلون الاشتباك من مسافة الصفر، حيث تتعطل قدرات سلاح الجو، وتُبرز المقاومة مهاراتها الفردية والجماعية”.
ويضيف: “الاشتباك القريب منح المقاومة أفضلية غير متوقعة، وعطّل فاعلية سلاح الجو والدعم الناري الإسرائيلي”.
- استهداف الآليات بالعبوات المطورة
ابتكرت المقاومة أنواعًا متعددة من العبوات الناسفة:
- العبوة البرميلية.
- عبوة “شواظ” المطوّرة.
- العبوات التتابعية والانشطارية.
وقد استُخدمت بكثافة ضد دبابات ميركافا وجرافات D9:
- شرق خان يونس: تم استهداف 4 حفّارات هندسية بقذائف “الياسين 105” وعبوات “شواظ”، وفق بيان القسام وتغطية قناة الميادين (يونيو 2025).
- الشيخ ناصر شرق خان يونس: تفجير عبوة برميلية كبيرة في دبابة إسرائيلية مما أدى إلى اشتعالها، وفق بيان سرايا القدس في نفس الشهر.
- توظيف الأنقاض والمباني المدمرة
في ظل تدمير الاحتلال لأحياء كاملة، طوّعت المقاومة الركام لصالحها:
- اختباء مجموعات خلف الجدران والأنقاض.
- تحويل الأطلال إلى نقاط كمون ومباغتة.
- استخدام طوابق مهدمة في المباني لتصوير عمليات أو تنفيذ عمليات قنص.
تقرير جروزاليم بوست (16 يوليو 2025):
“تحولت أنقاض غزة إلى خطر فعلي على القوات الإسرائيلية… حماس تنتشر من جديد في المناطق المدمرة وتهاجم من بين الركام”.
- القنص الدقيق والاستهداف النوعي
شهدت الحرب استخدامًا واسعًا لبنادق قنص متطورة، منها “الغول” القسامية:
- قنص جندي في عبسان الكبيرة (12 يوليو 2025).
- قنص ضابط على جبل الصوراني شرق غزة.
- قنص جندي قرب شارع بغداد شرق الشجاعية (28 مايو 2025).
وتُعد عمليات القنص وسيلة فعالة لبث الرعب وتكبيد الاحتلال خسائر دقيقة وموجعة، خصوصًا ضد وحدات الاستطلاع والهندسة.
- الكمائن النفسية والاستنزاف المعنوي
اعتمدت المقاومة على تصوير بعض عملياتها وبثها إعلاميًا، ما عزز من تأثيرها النفسي، مثل:
- مشاهد تفجير آلية ثم الاشتباك من نقطة صفر.
- مشهد استهداف مروحية “يسعور” بالإطلاق المباشر.
- فيديوهات “كمائن أبواب الجحيم” (مايو – يونيو 2025).
قالت صحيفة يسرائيل هيوم:
“تطورت المقاومة في غزة لدرجة أنها تفرض على الجيش معضلات أخلاقية وتكتيكية غير مسبوقة”.
بهذه الأنماط التكتيكية المعقدة، أظهرت المقاومة قدرة غير تقليدية على إلحاق الأذى بالاحتلال، ليس فقط جسديًا، بل نفسيًا وتكتيكيًا، في ظل أقسى الظروف الميدانية والإنسانية، ما يعكس تطورًا نوعيًا في سلوكها القتالي ووعيها العملياتي.
خامسًا: البيئة العملياتية المعقدة
خاضت المقاومة الفلسطينية حربها في غزة ضمن واحدة من أكثر البيئات العملياتية تعقيدًا في العالم، حيث التداخل الكثيف بين المدني والعسكري، وكثافة النيران، والانهيار شبه الكامل للبنية التحتية. ومع ذلك، نجحت المقاومة في التكيف مع هذه البيئة واستثمار خصائصها لتحقيق مكاسب ميدانية في مواجهة جيش متفوّق عدديًا وتسليحيًا.
فيما يلي أبرز ملامح هذه البيئة وانعكاسها على أداء المقاومة:
- القتال داخل بيئة حضرية مدمّرة
منذ الأسابيع الأولى للحرب، اعتمد جيش الاحتلال سياسة “الأرض المحروقة”، عبر تدمير واسع النطاق للأحياء السكنية والمباني والبنية التحتية، خاصة في بيت حانون، جباليا، حي الشجاعية، رفح، وخان يونس.
تقرير (OCHA مايو 2025):
“أكثر من 70% من البنية التحتية في غزة باتت غير صالحة، بما في ذلك الطرق والمدارس والمشافي، وجرى تهجير قرابة مليوني إنسان قسرًا”.
رغم هذه البيئة القاسية، استثمرت المقاومة الركام بشكل تكتيكي:
- كمائن في المباني المنهارة.
- قنص من بين الأنقاض.
- تحرك آمن بوحدات صغيرة بين الردم والأزقة.
(الجزيرة نت، 23 يونيو 2025):
“تحوّلت الأنقاض إلى ملاجئ طبيعية وقواعد انطلاق للمقاتلين، وأتاحت فرصًا جديدة للتخفي والمباغتة”.
- مواجهة التفوق الجوي والتكنولوجي
امتلك الاحتلال خلال الحرب قدرات غير تقليدية تشمل:
- طائرات استطلاع مسيّرة (هيرون، زكف، سكاي لارك).
- طائرات قتالية من طراز F-35 وF-16.
- أنظمة تشويش ومراقبة حرارية.
رغم ذلك، اتبعت المقاومة وسائل تحييد ذكية: - الاختباء في الأنفاق والتحرك الليلي.
- الاشتباك من نقطة صفر حيث يعجز الطيران.
- ضربات سريعة ومباغتة في أماكن تواجد القوات لا في مراكز المدن.
وقد اعترف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي (يونيو 2025) بأن:
“الكمائن تخرج من حيث لا نتوقع، حتى بعد تفجير المناطق بالكامل”.
- بيئة بشرية شديدة الكثافة والتشابك
قاتلت المقاومة في مناطق يسكنها مئات الآلاف، ووسط نازحين وأطلال مدمّرة، حيث أصبحت:
- الحدود بين الجبهة الداخلية وخطوط النار غير واضحة.
- المدنيون يتنقلون تحت النار، ويشكلون ضغطًا على الفصائل والاحتلال معًا.
ورغم الادعاء الإسرائيلي بـ”تجنب المدنيين”، تظهر التقارير الحقوقية أن أكثر من 70% من الشهداء مدنيون، ما يعني أن المقاومة أُجبرت على القتال في بيئة تتطلب حساسية مضاعفة وقرارات دقيقة.
- انهيار البنية اللوجستية وشبكات الاتصال
مع تدمير شبكات الاتصالات والكهرباء والطرقات، واجهت المقاومة تحديات ضخمة في:
- الاتصال بين المحاور.
- نقل السلاح والمقاتلين.
- إدارة العمليات وإصدار البلاغات.
ومع ذلك، أظهرت غرف العمليات (خاصة القسام وسرايا القدس) قدرة على التواصل المستمر، ونُفذت عمليات منسقة في مناطق متباعدة خلال ساعات، ما يشير إلى وجود بدائل اتصال غير تقليدية تعتمد على: - شبكة أنفاق كخطوط ربط تحت الأرض.
- وسطاء بشريون ميدانيين.
- إشارات وإشراف ميداني مباشر.
- استخدام الاحتلال للمدنيين كورقة ضغط
في مناطق مثل رفح وخان يونس، فرض الاحتلال “مناطق حمراء” وطالب بإخلاء السكان، لكنه عاد وقصف المخيمات التي أجبرهم على النزوح إليها.
تقرير “هيئة البث الإسرائيلية” (يونيو 2025):
“أحد أهداف سياسة الضغط الميداني هو إجبار المجتمع الغزي على الانقلاب على المقاومة، لكن النتائج عكسية حتى الآن”.
كما فشلت محاولات الاحتلال في خلق مناطق آمنة منزّهة عن المقاومة، حيث استمرت العمليات في عمق هذه المناطق.
وهكذا نجحت المقاومة في الاستفادة من البيئة المعقدة وتحويل بعض عناصرها من عبء إلى فرصة، عبر المرونة الميدانية، والتحكم الذكي بالميدان، والتعامل المزدوج مع العدو والظروف القاسية. وقد مثّلت هذه البيئة تحديًا تكتيكيًا لجيش الاحتلال، الذي رغم تفوقه الناري والتقني، لم يحقق تفوقًا ميدانيًا حاسمًا حتى اليوم.
سادسًا: الفاعلية الميدانية والاستراتيجية لأداء المقاومة
رغم امتلاك الكيان الإسرائيلي ترسانة عسكرية ضخمة وتقنيات تجسس ومراقبة متقدمة، إلا أن المقاومة الفلسطينية استطاعت الحفاظ على زمام المبادرة الميدانية، وفرضت واقعًا ميدانيًا واستراتيجيًا أربك المخططات العسكرية والسياسية للاحتلال. ويتجلى ذلك في المستويات الآتية:
- إفشال أهداف الحرب الإسرائيلية
منذ اليوم الأول للحرب، أعلن حكومة الاحتلال هدفها بـ”القضاء على حماس وتفكيك بنيتها العسكرية”، غير أن الواقع على الأرض بعد ما يزيد عن 20 شهرًا من المعارك يؤكد فشل هذا الهدف:
- استمرار إطلاق الصواريخ من كافة مناطق القطاع حتى شهر يوليو 2025، بوتيرة ومديات عالية في بداية الحرب ومنخفضة في الأشهر الأخيرة ولكنها مستمرة.
- حفاظ المقاومة على وحدات العمليات الخاصة والأنفاق رغم القصف المكثف على بنيتها التحتية.
- عودة انتشار المقاومين في مناطق انسحب منها جيش الاحتلال، مثل بيت حانون وجباليا وخان يونس.
- فشل كامل في الوصول إلى الأسرى الإسرائيليين الذين تم أسرهم في عملية “طوفان الأقصى”، رغم استنزاف جميع الأدوات الاستخبارية والتدميرية.
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي (مايو 2025):
“لم نحقق حتى الآن أهداف الحرب… الوضع في غزة أكثر تعقيدًا مما نُشر للجمهور”.
- الخسائر البشرية والمادية في صفوف الاحتلال
بحسب إحصائيات رسمية نشرتها صحيفة معاريف (15 يوليو 2025) نقلاً عن الجيش الإسرائيلي:
- عدد قتلى الجيش منذ بداية الحرب: 893 جنديًا.
- عدد الجرحى: أكثر من 2700 مصابًا، بينهم عشرات المصابين بإعاقات دائمة.
في المقابل، تؤكد فصائل المقاومة أن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير، مستندة إلى: - مشاهد الفيديو الميدانية (كمين الزنة، أبواب الجحيم، كسر السيف).
- رصد استهدافات مباشرة لدبابات وجرافات تحمل طواقم كاملة.
- استهداف طائرات مروحية وإجبارها على الانسحاب في خان يونس ورفح.
- الاستنزاف النفسي والمعنوي للجيش الإسرائيلي
لم تقتصر فعالية المقاومة على الخسائر المباشرة، بل شملت أيضًا:
- هزّ صورة الجيش “الذي لا يُقهر”، خاصة بعد توثيق فرار جنود من ساحة المعركة، وتخليهم عن آلياتهم تحت الضغط.
- تراجع الروح القتالية بين الجنود، ورفض العديد منهم العودة للقطاع بعد انتهاء دوراتهم، ما أدى إلى توسع في الاستقالات داخل وحدات النخبة.
- أزمة ثقة داخل القيادة السياسية والعسكرية، عبّر عنها كبار الجنرالات، مثل يسرائيل زيف: “هذه حرب عصابات مرعبة… لقد غرقنا في غزة”.
- الانعكاسات على الجبهة الداخلية الإسرائيلية
- خروج مظاهرات شعبية متكررة في تل أبيب والقدس أمام وزارة الجيش ومكتب نتنياهو، تطالب بإيقاف الحرب وإعادة الأسرى.
- تراجع ثقة الجمهور بالحكومة والجيش، كما أظهرت استطلاعات القناة 13 الإسرائيلية في يونيو 2025:
“63% من الإسرائيليين يعتقدون أن الحرب فشلت بتحقيق أهدافها، و58% يريدون إنهاءها فورًا”. - احتدام الانقسام السياسي الداخلي بين الأحزاب المعارضة (مثل “يش عتيد”) والحكومة حول جدوى استمرار المعركة.
- تكتيك الاستنزاف طويل الأمد
نجحت المقاومة في فرض نموذج استنزاف استراتيجي يقوم على:
- إجبار الجيش على إعادة اقتحام نفس المناطق.
- مضاعفة الخسائر مع كل جولة إعادة تموضع.
- نقل المعركة من الجنوب إلى الشمال ثم إلى الوسط، وإرباك حسابات القيادة.
العميد حسن جوني:
“استراتيجية المقاومة تعتمد على تنقّل مركز الثقل، من خان يونس إلى بيت حانون إلى الشجاعية، وهو ما يمنع الاحتلال من فرض السيطرة الثابتة ويستنزفه في كل جولة”.
- التأثير على الحسابات الدولية
- باتت الحرب تُوصف في مراكز الفكر الدولي مثل معهد RAND على أنها “حرب بلا نصر”، ما أضعف موقع الكيان الإسرائيلي التفاوضي حتى أمام حلفائه.
- أكدت تقارير أمريكية أن استمرار الحرب يقوّض أمن المنطقة، ويمنح المقاومة مشروعية متزايدة في الشارع العربي والإسلامي، خاصة مع نجاحها في الصمود الميداني والاحتفاظ بأسرى.
تُظهر حصيلة الحرب حتى الآن أن المقاومة الفلسطينية لم تُهزم، بل تمكنت من تحويل المعركة إلى اختبار لقدرة الجيش الإسرائيلي على الصمود، ليس فقط ميدانيًا، بل سياسيًا ونفسيًا وشعبيًا. فكل يوم حرب إضافي بات يُراكم الإرهاق في المؤسسة الإسرائيلية، ويمنح المقاومة نقاط قوة إضافية على طريق فرض شروطها في الميدان والسياسة.
سابعًا: نقاط القوة والضعف في أداء المقاومة
رغم الظروف الميدانية القاسية والمحدودية النسبية في الإمكانات، نجحت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بإظهار أداء عسكري متقدم، قائم على الكفاءة والمرونة والابتكار. ومع ذلك، فإن هذا الأداء لم يكن خاليًا من التحديات والاختلالات.
وفيما يلي تفصيل لأهم عناصر القوة والضعف كما رُصدت ميدانيًا واستنادًا إلى الشهادات والبلاغات والتقارير:
أولًا: عناصر القوة
- التخطيط الاستراتيجي والاستباقي
بدأت الحرب بهجوم مفاجئ ومخطط له بدقة في عملية “طوفان الأقصى”، شمل جمعًا بين:
- ضربات جوية (المسيرات والشراعية) وصاروخية مبدئية
- اقتحامات برية منسقة
- سيطرة على أهداف استراتيجية (غلاف غزة)
- أسر عدد كبير من الجنود والمستوطنين
يقول اللواء المتقاعد فايز الدويري:
“عملية الطوفان كشفت عن وجود غرفة عمليات متقدمة، تشبه هيئة أركان مصغرة تعمل بتنسيق فصائلي نادر”.
- التكامل بين الفصائل عبر الغرفة المشتركة
خلافًا لسنوات سابقة، أظهرت المقاومة تنسيقًا فعالًا بين كتائب القسام، وسرايا القدس، وألوية الناصر، وكتائب المقاومة الوطنية، وغيرهم، ما مكّن من:
- تنفيذ عمليات متزامنة في جبهات متباعدة،
- توزيع الأدوار والاختصاصات (كمائن، قنص، هاون، إسناد ناري)،
- تقاسم المعلومات الميدانية.
- الابتكار في التصنيع العسكري
رغم الحصار، طوّرت المقاومة قدرات محلية في:
- العبوات الناسفة (البرميلية، شواظ، التتابعية)،
- قذائف “الياسين 105” المطورة عن RPG،
- البنادق القنّاصة (مثل “الغول”)،
- طائرات استطلاع محلية الصنع استخدمت في المراقبة وضبط الرماية.
- استخدام الأرض كسلاح
تم توظيف:
- الأنقاض كمواقع كمون،
- الأنفاق للكمائن والتسلل والانسحاب،
- المباني المهدّمة كحواجز طبيعية وأدوات خداع ميداني.
- إدارة المعركة بتدرج وتصعيد مرن
اعتمدت المقاومة على النفس الطويل، فتناوبت بين:
- هجمات مفاجئة كثيفة (كما في الشجاعية وخان يونس)،
- كمائن مركبة في فترات التراجع (بيت حانون، جباليا)،
- قصف من بعيد عند الحاجة إلى تقليل الاحتكاك.
- التفوق المعنوي والميداني في الاشتباك القريب
- اعتماد أسلوب “الاشتباك من نقطة صفر”،
- استهداف دقيق لوحدات نخبة إسرائيلية، منها الفرقة 98 والمظليين،
- تفجير دبابات داخل الأزقة وإجبار القوات على الانسحاب.
ثانيًا: عناصر الضعف
- الحصار اللوجستي طويل الأمد
- صعوبة تعويض الذخائر والخسائر البشرية.
- تقليص عدد الجبهات المفتوحة بفعل القصف الجوي الشامل.
- استنزاف بعض القدرات المدفعية والصاروخية نتيجة طول الحرب.
- الخسائر البشرية داخل المقاومة
رغم التكتّم الرسمي، إلا أن المعطيات تشير إلى سقوط عدد كبير من الشهداء في صفوف المقاتلين، خاصة في الخطوط الأمامية خلال معارك التوغل، وفي عمليات الاستهداف المختلفة.
- تُظهر بعض التقارير المصورة تنفيذ عمليات فدائية (استشهادية) دفاعية في مواجهة التوغل، ما يعكس نقصًا في أحيانٍ بالبدائل والموارد.
- محدودية القدرة على حسم ميداني شامل
- لا تملك المقاومة قدرة على الاحتفاظ بأرض واسعة تحت السيطرة،
- كما أن استمرار القصف الجوي الإسرائيلي يفرض قيودًا على الانتشار المكشوف أو التمركز طويل الأمد.
- تعقيد إدارة المعركة وسط الانهيار الإنساني
- وجود مليونَي نازح ضمن بيئة المعركة يعقّد العمليات التكتيكية.
- احتمال وقوع خسائر مدنية غير مقصودة رغم محاولات ضبط الاشتباك، وذلك بفعل نيران العدو الانتقامية.
- الفجوة في القدرات الجوية والاستخبارية
- لا تزال المقاومة تفتقر لسلاح جوي أو مضاد جوي فعّال،
- وتعتمد على الرصد البصري والتقليدي بدلًا من الأقمار الصناعية أو طائرات استطلاع متقدمة.
تُظهر المقاومة الفلسطينية أداءً عالي التنظيم والمرونة، مكّنها من مراكمة الإنجازات الميدانية رغم التفوق الإسرائيلي الكاسح في الجو والتقنية والموارد.
لكن هذا الأداء يظل معرضًا لضغوط متزايدة مع طول أمد الحرب، ما يتطلب الحفاظ على الموارد القتالية، ورفع قدرة التحمل الشعبي، وتوسيع الاحتضان الإقليمي.
ثامنًا: الدلالات المستقبلية للتجربة العسكرية للمقاومة
تفتح تجربة المقاومة الفلسطينية في حرب غزة الممتدة منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم آفاقًا استراتيجية جديدة، سواء على صعيد الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، أو فيما يتعلق بموقع المقاومة داخل النظام الإقليمي والدولي. فقد أظهرت الحرب أن فاعلية المقاومة لا تقاس فقط بتوازن القوة الكلاسيكي، بل بقدرتها على إرباك الخصم، امتصاص ضرباته، وتعديل قواعد الاشتباك بما يعيد صياغة المعادلات السياسية والعسكرية.
فيما يلي أبرز الدلالات المستخلصة:
- إعادة تعريف الردع في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي
- فشل الحسم الإسرائيلي، وعدم القدرة على فرض إرادة الاحتلال عسكريًا رغم استخدام أقصى درجات التدمير، يؤشر إلى انهيار النموذج التقليدي للردع الإسرائيلي.
- القدرة على الاستمرار في القتال والإرباك حتى بعد الفترة الطويلة من القتال، تكشف أن المقاومة باتت تملك أدوات ردع بديلة، قائمة على:
- الاستنزاف
- مفاجآت التكتيك
- القدرة على استمرار احتجاز الجنود الأسرى
- تفجير آليات ونقاط سيطرة.
الخبير الإسرائيلي عاموس هرئيل يقول:
“حماس باتت قادرة على ردع إسرائيل ميدانيًا حتى بدون غطاء من دول كبرى أو محور إقليمي” (هآرتس، يونيو 2025).
- ترسيخ نموذج الحرب طويلة الأمد متعددة المراحل
على عكس الحروب السابقة التي دامت أيامًا أو أسابيع، استطاعت المقاومة فرض نموذج حرب طويلة النفس، يتميز بـ:
- التدرج في التصعيد والتراجع.
- تدوير الجبهات (شمال – جنوب – وسط).
- استعادة السيطرة بعد انسحاب الاحتلال.
- التكيف مع النزيف اليومي دون انهيار منظومة القيادة.
هذا النموذج بات محل دراسة لدى العديد من المؤسسات البحثية العسكرية، كما أشار تقرير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS، يوليو 2025):
“المقاومة في غزة نجحت في ابتكار تكتيك ينهك الخصم دون أن يُستنزف داخليًا، وهذا تغير نوعي وخطر”.
- تثبيت المقاومة كفاعل ميداني لا يمكن تجاوزه سياسيًا
- استمرار المقاومة في الميدان منحها شرعية تفاوضية فعلية، خاصة في ملفات الأسرى وإعادة الإعمار ووقف إطلاق النار.
- عزّز ذلك من موقعها في المبادرات الإقليمية والدولية، رغم كل المحاولات الإسرائيلية لإقصائها أو شيطنتها.
- حتى الولايات المتحدة – الداعم الأكبر للكيان الإسرائيلي – اضطرت للاعتراف بحضور المقاومة كرقم رئيس في معادلة التهدئة.
- صعود الجبهة الشعبية العربية مع خطاب المقاومة
- أدّت مشاهد الصمود والاشتباك القريب إلى تحفيز رأي عام عربي وشعبي متعاطف بشدة، ظهر ذلك في:
- التظاهرات في العواصم.
- نشاط الجاليات.
- اتساع حركة المقاطعة ورفض التطبيع.
- باتت المقاومة رمزًا جديدًا للمقاومة العالمية ضد الاحتلال والعنصرية والاستعمار، كما وصفها نشطاء أميركيون في الجامعات والبودكاست السياسي.
5. إلهام حركات مقاومة أخرى في المنطقة
- شكلت تجربة المقاومة في غزة نموذجًا مرنًا ومتاحًا لحركات مقاومة محدودة الإمكانات، سواء من حيث:
- إدارة العمليات في بيئة مدنية مكتظة.
- تصنيع الوسائل القتالية محليًا.
- تحويل الأرض إلى عنصر قتال وليس عبئًا.
- يشير ذلك إلى إمكانية نقل الخبرة الغزية إلى ساحات مقاومة أخرى (مثل الضفة الغربية، ولبنان، وربما ساحات خارجية).
6. الحاجة إلى التحصين السياسي والإعلامي للتجربة
رغم النجاحات الميدانية، فإن تثبيت مكاسب المقاومة يتطلب:
- بناء حاضنة سياسية داخلية وإقليمية قوية.
- تعزيز الحضور الإعلامي الدولي المهني الذي يوثق جرائم الاحتلال ويبرز منجزات المقاومة.
- إعادة بناء شبكة دعم رسمي وشعبي في العالم الإسلامي والعربي، خاصة مع تصاعد محاولات “شيطنة” المقاومة ووصمها بالإرهاب.
تمثل تجربة المقاومة الفلسطينية في حرب غزة الجارية تحولًا استراتيجيًا في مسار الصراع، يفرض على جيش الاحتلال مراجعة عقيدته القتالية، ويمنح المقاومة مساحة جديدة من المناورة والشرعية، ولكن هذه الفرصة الاستثنائية تحتاج إلى مساندة سياسية وإعلامية مستمرة، لحماية ما تحقق وضمان تثميره على المدى الطويل.
الخلاصة
لقد كشفت الحرب على غزة الممتدة منذ أكتوبر 2023 عن مرحلة جديدة في تطور الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية، مرحلة اتسمت بالمبادأة، والتكتيك المركب، والإدارة الميدانية تحت النار، في ظل ظروف غير مسبوقة من التدمير والحصار والتهجير الجماعي.
ورغم أن الاحتلال الإسرائيلي ألقى بكل ثقله الناري والتكنولوجي والاستخباري، فإن المقاومة لم تنهَر، بل راكمت مكاسب ميدانية ومعنوية واستراتيجية، جعلت من هذه الحرب معركة استنزاف طويلة الأمد قلبت معادلات التفوق التقليدي.
لقد فرضت المقاومة واقعًا جديدًا على الكيان الإسرائيلي والمنطقة، واقعًا يقوم على أن التفوق لا يُقاس بعدد الطائرات أو الدبابات، بل بمن يمتلك المبادرة، ويفهم الأرض، ويقاوم من بين الركام، ويُفاجئ من داخل الحصار.
وفي المقابل، فإن الفشل الإسرائيلي في حسم المعركة، أو حتى تثبيت مكاسب ميدانية، أظهر حدود القوة، وكشف عن أزمة في العقيدة العسكرية الصهيونية، وأعاد الاعتبار لنموذج حرب الإرادة في مواجهة الاحتلال.
هذه التجربة، بكل تعقيداتها وتضحياتها، لا تمثل فقط صمودًا ملحميًا في وجه الإبادة والتجريف والتهجير، بل تمثل أيضًا مدرسة جديدة في فن الحرب غير المتكافئة، ستكون موضع دراسة، وإلهام، وتطوير في ساحات المقاومة المستقبلية في فلسطين وخارجها.
التوصيات
استنادًا إلى ما سبق من تحليل للواقع الميداني وتقييم لفعالية المقاومة الفلسطينية خلال الحرب الجارية على قطاع غزة، تُوصي الورقة بما يلي:
أولًا: على المقاومة الفلسطينية والفصائل العسكرية:
- ترسيخ نموذج “الكمين المتعدد الطبقات” كعقيدة عملياتية أساسية، وتطويره ليشمل تزامن النيران والهجوم، مع توسيع وحدات الرصد والمراقبة داخل المناطق التي انسحب منها الاحتلال.
- توسيع هندسة الأنفاق الأفقية والرأسية في المناطق المُستعادة، وتحصينها بنقاط اتصال تكتيكية محلية لضمان استمرار التفاعل القتالي حتى تحت القصف المكثف.
- الاستثمار في تقنيات الرصد الميداني والوسائل الجوية منخفضة الكلفة (مثل الطائرات المسيّرة البدائية) لمضاعفة دقة الاستهداف، وتحسين فعالية النيران.
- التنسيق العملياتي بين الفصائل يجب أن ينتقل من التكامل الوقتي إلى صيغة القيادة المشتركة الدائمة، بما يشمل قواعد اشتباك موحدة، وغرفة متابعة دائمة، وخطط طوارئ مشتركة لكل مرحلة.
ثانيًا: على المستوى السياسي والإعلامي المقاوم
- الانتقال من الخطاب التعبوي العاطفي إلى خطاب تحشيدي استراتيجي يربط بين التكتيك الميداني والمصلحة الوطنية الفلسطينية، ويرسخ شرعية المقاومة كشكل دفاعي لا يمكن نزع مشروعيته.
- تكثيف النشر الإعلامي متعدد اللغات لعمليات المقاومة الموثقة بدقة، مع التركيز على صياغة الرواية بلغة الحقوق والقانون الدولي، لتقويض سردية الاحتلال في الخارج.
- تفعيل منصات التوثيق الميداني المستقلة لجمع وتحليل وتقديم الأدلة البصرية والميدانية حول خسائر الاحتلال ونجاحات المقاومة، بما يُستخدم لاحقًا في الإعلام والمفاوضات والمؤسسات الحقوقية.
ثالثًا: على الداعمين والمؤسسات والمراكز البحثية:
- تقديم دعم معرفي للمقاومة من خلال أوراق تحليلية عسكرية وأمنية دورية، تستفيد من تجارب سابقة وتوجه الأداء نحو مزيد من الفاعلية والدقة والابتكار.
- إنشاء “بنك أهداف استراتيجي” مدني–معلوماتي لحفظ وتحليل أنماط أداء العدو في الجولات السابقة، وتقديمه للمقاومة كدليل استباقي للعمل.
- تبنّي مشروع وطني لتوثيق التجربة القتالية للمقاومة في هذه الحرب ضمن موسوعة عسكرية–سياسية شاملة، توثق التحديات، التكتيكات، التضحيات، الإنجازات، والإخفاقات، بما يضمن نقل المعرفة والتراكم للأجيال القادمة.